- من مواليد قرية بني عمار زرهون, المغرب، بتاريخ 28-06-1974 - حاصل على الدكتوراه في القانون العام، تخصص العلاقات الدولية من جامعة محمد الخامس بالرباط - أستاذ باحث في كلية الحقوق، جامعة القاضي عياض - مراكش - اشتغل لعدة سنوات كأستاذ زائر بكلية الحقوق، جامعة المولى إسماعيل- مكناس - نشرت له مجموعة من الدراسات والمقالات في العديد من المجلات العربية المتخصصة (المستقبل العربي، شؤون عربية، التاريخ العربي، الوفاق العربي، القسطاس...) والجرائد العربية والمغربية (القدس العربي, الصباح, الأحداث المغربية, الاتحاد الاشتراكي، الطريق, البيضاوي, العلم، الأنوار، الصحيفة، الميثاق الوطني، دفاتر سياسية...). - أسهم بدراسة إلى جانب نخبة من الباحثين والمفكرين العرب ضمن كتاب صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت, سنة 2002, تحت عنوان : العرب والعالم بعد 11 أيلول / سبتمبر. - وكتاب مشترك آخر صادر عن نفس المركز سنة 2004 تحت عنوان: العولمة والنظام العالمي الجديد. له كتاب تحت عنوان: من غزو أفغانسات إلى احتلال العراق, التداعيات الدولية الكبرى لأحداث 11 شتنبر، صدر سنة 2005. - رئيس تحرير مجلة الدولية - عضو بمجموعة من مراكز الأبحاث العلمية وناشط جمعوي - شارك في عدة ندوات وطنية ودولية
عرفت المنطقة العربية في السنوات الأخيرة نقاشات فكرية وسياسية حادة ومكثفة بصدد علاقة بالدين والسياسة، تأرجحت في مجملها بين
عرفت المنطقة العربية في السنوات الأخيرة نقاشات فكرية وسياسية حادة ومكثفة بصدد علاقة بالدين والسياسة، تأرجحت في مجملها بين
اتجاه يرى بإمكانية الدمج بينهما واتجاه آخر يرفض هذه المزاوجة، فيما نجد مجموعة من الدساتير العربية تحذر من تأسيس أحزاب على أساس ديني.
وإذا كانت بعض الدول العربية قد فضلت التعايش مع الحركات الإسلامية؛ مما مكن هذه الأخيرة من الوصول إلى البرلمان وتقلد مناصب حكومية..، فإن دولا أخرى اختارت منطق التضييق والإقصاء في مواجهتها.
وإسهاما منه في رصد تجارب مختلف هذه الحركات- سواء تلك التي اعتمدت المشاركة كخيار لها وأتيحت لها الفرصة في ذلك، أو تلك التي أبدت الاستعداد وتبذل جهودا من أجل هذه المشاركة- ضمن المشهد السياسي والدستوري في المنطقة العربية وتركيا؛ بغية الوصول إلى فهم تصورها إزاء العمل السياسي؛ ومنظورها لمختلف الفاعلين واستخلاص بعض النتائج منها.. نظم مركز الدراسات الدستورية والسياسية بمراكش ندوة دولية في موضوع: الحركات الإسلامية المشاركة في المؤسسات السياسية في البلاد العربية وتركيا، وذلك يومي 16 و 17 يونيو/ حزيران 2006 عرفت مشاركة مجموعة من الباحثين من مختلف الأقطار العربية وتركيا.
الجلسة الأولى: تجربة دول المغرب العربي: ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب
ترأس الجلسة د.عبد الإله بلقزيز(جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء، المغرب) الذي أشار في مستهل كلمته إلى أن أهمية موضوع الندوة تنبعث من حجم الأسئلة الكبرى التي تطرحها مشاركة هذه الحركات في المؤسسات السياسية، وما تخلفه من نتائج وتداعيات، وانعكاساتها على تشكيل المجال السياسي العربي، وما يصاحب ذلك من تساؤلات تثار بصدد حدود صدقية الخيار الديموقراطي الذي رست عليه حركات إسلامية عديدة في الدول العربية بعد مراوحات بين السياسة والعنف.
وعن التجربة الليبية في هذا الخصوص، وضمن مداخلة عنوانها: الحركات الإسلامية والسلطة في ليبيا، بين ماض مقبول وحاضر مرفوض. أكد د. مصطفى عمر التير(جامعة الفاتح - طرابلس) على أنه خلال القرن التاسع عشر، ظهرت حركة دينية مسلحة واجهت الاحتلال الأجنبي، وهي الحركة السنوسية التي تشبه الحركة المهدوية في السودان والحركة الوهابية في السعودية..، قبل أن تحقق انتشارا واسعا وتشكل قوة عسكرية مهمة في مواجهة كل من الاحتلالين الفرنسي والإيطالي.
وكانت ليبيا من بين الدول العربية التي حرم فيها عمل أحزاب الحركات الإسلامية الحديثة منذ عهد الملكية، علما أن برامج الإخوان المسلمين وصلت إلى ليبيا منذ سنوات الأربعينيات من القرن الماضي بفضل بعض الأشخاص الوافدين من مصر.
وعندما قامت ثورة القذافي في أواخر الستينيات من القرن المنصرم، تم رفع شعار: من تحزب خان، وعلى الرغم من ذلك، لم تتخذ الدولة إجراءات زجرية وعقابية ضد الإخوان المسلمين، بل عمل رجال الثورة على ألا يتولى هؤلاء مناصب حساسة تسمح لهم بنشر أفكارهم، قبل أن تمارس الدولة الطرد والعقاب في حقهم، بعدما أخذت هذه الحركات تتسرب من بلدان عربية أخرى وتنتظم في شكل جماعات صغيرة وخلايا سرية تحمل أسماء خارجية، ولعل هذا ما يفسر وجود أعضاء عديدين من تنظيمات إسلامية ليبية يقبعون في السجون: مجموعة الجهاد، التكفير والهجرة، الجماعة الإسلامية المقاتلة، التجمع وسرايا المقاتلين…
ويلاحظ أنه وعلى الرغم من تعزيز ليبيا لإجراءاتها الأمنية والسياسية لمواجهة هذه الحركات، إلا أن هذه الأخيرة تحاول من حين لآخر نشر أفكارها وتصوراتها في أوساط المجتمع الليبي.
وعلاقة بالتجربة المغربية، وفي محاولة منه لقراءة مسار حزب العدالة والتنمية، اعتبر ذ.عبد السلام الطويل (باحث من المغرب) أن هناك معيارين لقياس الأصول التاريخية للحزب، المعيار الأول: شكلي؛ ويربطها بحزب الحركة الشعبية باعتبار الحزب(العدالة والتنمية) استمرارا لها وذلك اعتمادا على تقارب المرجعيات.
والمعيار الثاني: موضوعي؛ يعتبر الحزب امتدادا لحركة الجماعة الإسلامية المنبثقة عن الشبيبة الإسلامية المتفككة، وبخاصة عقب تورطها في عدة اغتيالات وأعمال عنف وتفرعها إلى مجموعة من الاتجاهات والتيارات.
لقد كان هناك حوار متواصل مع دوائر السلطة منذ سنوات الثمانينيات انصب على مشاركة الحركة- التي أفضت إلى قيام الحزب- في الحياة السياسية، حيث قدمت عبر مجموعة من السلوكات والبيانات(كالتصويت بنعم خلال مجموعة من الاستفتاءات) مؤشرات تعطي انطباعا يوحي باعتدالها، كما حرصت على تقديم طلب لتأسيس حزب سياسي، فيما كانت السلطة تنتظر الوقت المناسب لكي تتبلور شروط هذه المشاركة، قبل أن يتحقق ذلك بشكل تدريجي ومدروس.
إن حزب العدالة والتنمية يقدم وظيفة جيدة للملكية تتجلى في خلق نوع من التوازن الذي يخدم استراتيجية الدولة مع أكبر حركة إسلامية خارج اللعبة السياسية: العدل ولإحسان التي لازالت تشتغل خارج قواعد اللعبة السياسية. وأمام وجود حركات مناوئة علمانية وإسلامية، يظل السؤال مطروحا: هل سيستمر الحزب في القيام بهذه الوظيفة؟ أم أنه سيتوجه نحو تأسيس تحالفات جديدة أخرى بعيدا عن مصالح الدولة؟
وبعد سنوات من دخوله معترك المشاركة في المؤسسة البرلمانية، أضحى حزب العدالة والتنمية يثير مجموعة من الملاحظات والتساؤلات: فهو لا زال يجمع بين النشاط الحزبي من جهة والعمل الحركي من جهة ثانية، وذلك بالمقارنة مع مكونات سياسية أخرى، كما أنه وفي ظل الأزمة التي يعيشها إعلامه المكتوب والتي لا تنسجم مع متطلبات العصر والمرحلة، يثار السؤال حول أية إمكانية ناجحة يمكن توقعها فيما يخص تحمله للمسؤوليات الحكومية في المستقبل؟
إن المغرب بلد إسلامي، والدستور المغربي يؤكد على ذلك، فبأي مبرر يستمر الحزب في تركيزه على المرجعية الإسلامية مادامت هذه مرجعية الدولة بأسرها.
وبغض النظر عن هذه الملاحظات، يظل حزب العدالة والتنمية من أكثر الأحزاب المغربية المؤهلة لإخراج المغرب من أزماته، والقيام بأدوار مهمة وطلائعية على مستوى تدبير الشأن الحكومي، وبخاصة إذا ما توافرت بعض الشروط، فهناك ديموقراطية داخلية حقيقية لا يمكن إنكارها، وترشيحات للبرلمان من داخل الإطار، وتناوب داخلي حقيقي وأداء جيد داخل البرلمان وحضور مستمر لجلساته…
وفي مقاربة أخرى ترتبط بنفس الحزب، انطلق د.محمد الطوزي (كلية الحقوق، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء، المغرب) من طرح سؤال: ما هي شروط وظروف وملابسات مرور حزب العدالة والتنمية من حركة دعوية لها مرجعية نظرية، إلى حركة سياسية لها مقومات أخرى؟
إن المسار التاريخي يعطي بعض المفاتيح الكفيلة بفهم خصوصية الحركة الإسلامية في المغرب، فالفضاء المغربي له خصوصيات أتاحت إمكانية بروز حركة إسلامية قطرية، كانت علاقتها مع مثيلاتها في العالم العربي ضعيفة، وبخاصة وأن البلد عرف نوعا من النفور من المد الناصري في الستينيات من القرن الماضي، وذلك بالنظر لموقف جمال عبد الناصر من الصراع المغربي- الجزائري.. وهذا ما يفسر كون العلاقة بالإخوان - الذين جاؤوا للمغرب بمحافظ ناصرية - كانت جد ضعيفة، على الرغم من وجود مرجعية الإخوان كأفق معرفي وإيديولوجي لدى الحركة الإسلامية في المغرب.
عرف الحقل الديني المغربي حركات معتدلة كالإصلاح والتجديد مع وجود حركة شاذة هي العدل والإحسان التي توازي بين مرجعيتين: صوفية وإسلامية من حيث وتكوينها وتأطيرها وفكرها، وهي تعتمد على مرجعية إسلامية تقليدية محافظة على مستوى شرعنة الحكم.
وهناك مرتكزات عديدة اعتمدت عليها الحركة للمرور من حركة دعوية:
1- اختيار البراغماتية كمرجعية أساسية.
2 - القطيعة المبكرة مع أدبيات المحنة(سيد قطب).
ولعل هذا ما مكن من بروز فكر نقدي داخل الحركة نفسها؛ وهو ما تبلورمن خلال مجموعة من الكتابات.
جاءت المشاركة الأولية في بداية التسعينيات من خلال الحركة الديموقراطية الشعبية الدستورية من أجل طلب التميز، ويمكن القول أن هذا التدرج ساعد الحركة على تجاوز مجموعة من العراقيل.
وفيما يتعلق بمخلفات وعواقب المرور من حركة دعوية إلى حزب سياسي:
فعلى المستوى العقائدي: اضطرت الحركة إلى التخلي عن المهارات الدعوية والاعتراف بالازدواجية بين الحركة والحزب.
وعلى المستوى التنظيمي: تمت إعادة هيكلة الحزب، وأصبح للنخبة البرلمانية سلطة مهمة داخله؛ على عكس الدعاة المحليين الذين لم تعد لهم نفس القوة التأطيرية والتعبوية.
وحول تجربة حركة حماس الجزائرية، انطلق د.احميدة النيفر (جامعة الزيتونة - تونس) من مجموعة من الأسئلة التي اعتبرها أساسية من أجل فهم الحركة: لماذا هذا التخوف الشديد من الحركات الإسلامية في المشهد السياسي العربي؟ وهل هذا التخوف مبالغ فيه؟ أم أن هناك أسبابا موضوعية تبرر هذا الرعب؟
إن هناك مجموعة من المؤشرات التي تثير نوعا من الرعب إزاء هذه الحركات، من قبيل الإطلاقية التي تعبر عنها بصدد امتلاك الحقائق، وادعاء النقاوة الإيديولوجية بالإضافة إلى التداخل الهيكلي والتنظيمي بين صفتها كحركات للتنشئة والتأطير والتربية والدعوة وصفتها كحزب سياسي يبتغي إدارة الشأن العام.
تستمد حركة حماس الجزائرية مبررات معركتها من واجهتين: الأولى أجنبية خارجية، وبخاصة بعد انهيار المعسكر الشرقي وما تلاه من فرض الهيمنة الأمريكية، والثانية مرتبطة بمأزق داخلي، حيث تعتبر أن الإسلام هو الحل لجميع المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتخبط في البلاد.
وترفض الحركة - التي تحاول أن تعتمد خطابا إسلاميا عقلانيا- كل مظاهر العولمة، وإذا كانت في منطلقاتها إخوانية، فهي في العمق حركة جزائرية وليست مشرقية؛ كما أنها لا تأخذ بالشعارات العامة، حيث حرصت على الارتباط بالتراث الجزائري ومشاكل الجزائر. ومنذ بدايات ظهورها، اعتمدت في أساليبها على نصيحة أولي الأمر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما تلافت إطلاق أي مواقف تكفر الدولة.
وما بين سنتي 1978 و1988 حدثت تحولات كبيرة؛ وبرزت مجموعة من المشاكل الاجتماعية بالجزائر بعد وفاة الرئيس بومدين، وهنا أسهمت الحركة بشكل واضح في التضييق على خيار العنف بالشكل الذي انعكس على المصالحة الوطنية نظرا لعقليتها الوفاقية بين الإسلاميين والعلمانيين، وقد وافقت السلطات على مشاركتها السياسية على عكس بعض الدول العربية.
إن تقييم تجربة حماس في السلطة بعد الفترة الدموية التي شهدتها الجزائر في بداية التسعينيات، يبرز أن مشاركتها بدت وكأنها غاية في حد ذاتها – تأهيل كوادرها لتسيير دواليب الدولة-، كما أن الحركة لازالت تتأرجح بين كونها حزبا سياسيا حديثا وحركة شعبوية تحشد الناس تحت شعارات كبرى لأغراض انتخابية.
وضمن نفس السياق، وارتباطا بالتجربة الجزائرية أيضا، جاءت مداخلة د.عروس الزبير (جامعة الجزائر)، التي أشار في مستهلها إلى أن الجزائر عرفت بعد سنة 1989 تأسيس حوالي ستين (60) حزبا سبعة وخمسون (57) منها معتمد وخمسة (5) منها ذات توجهات إسلامية: حزب التجديد، الجزائر المعاصر، الجبهة الإسلامية للإنقاذ، حركة حماس وحركة النهضة اللتان سيتم التركيز عليهما.
إن أول حزب جزائري اعتمد المرجعية الإسلامية تأسس سنة 1947 وفقا للقوانين الفرنسية، - وهو أيضا أول حزب إسلامي ظهر في المنطقة العربية- وكان يعرف باسم حزب الوحدة، وهذا معطى مهم سيوفر أرضية لبلورة مواقف سياسية لكل من حزبي النهضة وحماس الذي يمثل الاتجاه العالمي لحركة الإخوان المسلمين وهما – للإشارة- بدأتا كحركتين جمعويتين.
فحركة النهضة دخلت النشاط السياسي ونهجت المعارضة الصريحة بعد توقيف الانتخابات واستقطابها لأعضاء من جبهة الإنقاذ من دون أن تشارك في الحكم، على عكس حركة حماس التي بدأت مشاركتها بطريقة غير شرعية سنة 1992 بعد توقيف المسار الانتخابي بدخولها المجلس الوطني الانتقالي وهو ما اعتبر- من قبل البعض - في حينه موقفا خطيرا.
دخلت حركة النهضة المجلس التشريعي بقوة في انتخابات 1997، لتنقسم بعد ذلك إلى تيار معتدل وآخر معارض.
أما حركة حماس التي تأسست سنة 1990 فقد كان هدفها الأول هو مواجهة خطر العنف في الجزائر، وبدورها شاركت في المؤسسات الدستورية، كما شاركت أيضا في تسيير شؤون الحكم، حيث شغلت وظائف حكومية، ولم تتح لها إمكانية تسيير بعض الحقائب الحكومية وبخاصة تلك المتعلقة منها بشؤون الثقافة والتربية والتعليم، الأمر الذي يعبر عن نوع من علاقة عدم الثقة مع النظام رغم أنها اعتمدت مواقف منسجمة إلى حد التماهي مع مواقف مؤسسة رئاسة الدولة.
ومن جانبه حاول د. اعلية العلاني (الجامعة التونسية) أن يرصد تجربة تونس في هذا الإطار من خلال التركيز على حركة النهضة التي كان لها دور كبير في منطقة المغرب العربي، وهي حركة وإن لم تكن تهدف إلى المشاركة السياسية؛ فقد كانت ترغب في أسلمة السلطة، حيث نهجت سبيل العمل السري، وفي سنة 1980 اكتشفها الأمن وطالبها بالعمل العلني.
اتخذت الحركة ضمن وسائلها المسجد كفضاء للتأطير ونشر أفكارها (معاداة الغرب، التهجم على اللائكية…) التي اعتبرت نقيضا لدولة الحداثة، وهكذا ستأتي محاكمات سنة 1981، مما سيدفع الحركة إلى الدخول في ردة الفعل وهو ما سينتج عنه أحداث كبرى أسهمت بقدر كبير في تقوية هذه الحركة، بالشكل الذي أضحت معه رقما أساسيا داخل تونس.
لم تكن حركة النهضة حركة تونسية المنشأ، فقد كان ولاؤها كبيرا للإخوان المسلمين في مصر، مما يفسر طبيعة أدبياتها التي كانت في مجملها إخوانية، كما أنها كانت توجه انتقادات للحركات الإصلاحية التي ظهرت في القرن التاسع عشر (19) وبخاصة تلك التي قادها كل من محمد عبده، الكواكبي والأفغاني… واتهمتها بأنها لا تمثل الإسلام الصحيح.
وعرفت الحركة في مسارها مخاضا بين المشاركة والمواجهة، علما أن المواجهة – التي كانت مسؤولة عنها في غالب الأحيان - كانت أكثر حضورا ضمن سلوكها (للإشارة فمنذ بداية التسعينيات وإلى حدود الآن، تعيش الحركة مرحلة المواجهة). وقد ارتكبت الحركة أخطاء كثيرة، وتبين في مرات عديدة أنها لا تتحكم في خطاباتها، ففي سنوات الثمانينيات وقعت الحركة في خطأ كبير حيث راهنت على الوصول للسلطة سلميا و إلا بالعنف.
وبعد سنة 1987 برز نظام جديد بتونس قبل بمبدأ مشاركة سياسية محدودة عبر عنها بمجموعة من المؤشرات: خلق مجلس الميثاق الوطني والمجلس الإسلامي الأعلى، وتنظيم الانتخابات البرلمانية لسنة 1989..
أمام هذه المعطيات برز نداء من داخل الحركة يدعو إلى ضرورة إعادة تقييم أدائها ومراجعة ذاتها في تعاملها مع السلطة ومع الجماهير. وهكذا تبلورت لديها مواقف جديدة بصدد قضايا ومواضيع حيوية عدة(مواقفها مثلا من: حقوق الإنسان، ومن الغرب، والتخلي عن المسجد كفضاء للتأطير والشحن..)، وفي خطوة شاذة منها دخلت الحركة في تحالفات جديدة مع اليسار الراديكالي ومع قوى وسطية.
وفي ظل هذه المراجعة لتكتيكها السياسي، يظل السؤال مطروحا حول إمكانية إعادة النظر في مرجعيتها النظرية؟ وبخاصة وأنها لازالت تقسم الناس بين مؤمنين وملحدين، ووجود تصريحات داخل الحركة تتحدث على أن هذه الأخيرة هي حركة ربانية. وهي المعطيات التي دفعت ببعض الباحثين إلى مطالبتها بضرورة توضيح مجموعة من مواقفها المبهمة قبل إقحامها في أية مشاركة سياسية.
الجلسة الثانية: التجربتان: السودانية والمصرية
تحفل كل من التجربتين السودانية والمصرية بمعطيات مهمة ضمن هذا السياق، وذلك بالنظر إلى تراكمهما التاريخي وانخراط هذه الحركات في مشاركة متباينة في أهدافها وأشكالها وأبعادها، بالشكل الذي يجعل منها مختبرا غنيا بالنسبة للباحثين والخبراء في هذا الشأن. وتضمنت هذه الجلسة التي ترأسها د.مصطفى عمر التير(جامعة الفاتح - طرابلس) ثلاث مداخلات غنية، ففي الموضوع الأول الذي حمل عنوان: الحركة الإسلامية السودانية والمشاركة السياسية؛ التي تلاها أحد الباحثين نيابة عن د. حيدر إبراهيم (مركز الدراسات السياسية- الخرطوم) أكد هذا الأخير على أن الحركة الإسلامية في السودان تختلف عن مثيلاتها في الدول العربية؛ لارتباطها بحركة التحرر في البلاد. فقد ظهرت منذ منتصف الأربعينيات من القرن المنصرم، ولم يتم اضطهادها كما هو الحال بالنسبة لمعظم الدول العربية، غير أنها اعتمدت بعد ذلك أسلوب الانقلاب كوسيلة من أجل الوصول إلى الحكم.
وبخصوص الحركة الإسلامية السودانية التي تزعمها الترابي فقد واجهت الشيوعيين ورفعت شعارات عديدة تمحورت حول المناداة باعتماد دستور إسلامي وبتطبيق الشريعة الإسلامية، مما أكسبها الكثير من المؤيدين، وبخاصة وقد كان شعار تطبيق الشريعة أكثر جاذبية من الاشتراكية، مما سيتيح لها فيما بعد إمكانية عقد تحالف مع النميري الذي طبق الشريعة الإسلامية، وهو ما اعتبرته الحركة في حينه إنجازا كبيرا وانتصارا لها، وقد منحت هذه الإمكانية سلطة دينية مطلقة مستبدة للنظام، حيث اعتبرت كل معارضة له بمثابة معارضة للشريعة الإسلامية ذاتها.
وبعيدا عن الشعارات والخطابات، كشفت الحركة عن موقفها الحقيقي من الديموقراطية بعد وصولها إلى الحكم؛ بحيث لم تستطع تكريس ممارسات ديموقراطية حقيقية ضمن سلوكها، لتكتفي بالدخول في جدل عقيم حول الشورى، وعجزت عن تطبيق الشورى والديموقراطية وهي على رأس السلطة، وتبنت الرؤية الأحادية ومنعت الاختلاف والتعدد، ووقعت في ارتباك بين خيارين: الانتماء للوطن أم للأمة، ولم تعلن بذلك موقفا واضحا تجاه الوطنية والقومية، غير أن سلوكها كان يعطي الانطباع بميلها للأمة الإسلامية.
وفيما يخص العلاقة مع غير المسلمين، فالحركة تؤمن بمقولة أهل الذمة وتسقط حقوق غير المسلمين وتقر بعدم التكافؤ في تقلد المناصب، على الرغم من وجود مواطنين سودانيين غير مسلمين، كما أنها كانت تعتبر الحرب في الجنوب السوداني جهادا (أي مؤمنين ضد كفار).
أما د. نبيل عبد الفتاح( باحث بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة) وفي سياق حديثه عن التجربة المصرية في هذا الصدد، حاول في مداخلته تقييم حصيلة الإخوان المسلمين في الانتخابات التشريعية المصرية الأخيرة (سنة 2005).
حيث لا حظ في البداية أن هناك توجها جديدا لدى الجماعة - التي اعتادت العمل في الدعوى وليس في السياسة - نحو تلافي البعد الانقلابي كنمط وخيار للوصول إلى السلطة.
لقد برز صراع تاريخي بين الإسلاميين والسلطة (رجال الثورة) أفرز معه محطات عديدة من الاضطراب والتوتر، وبخاصة وأن السلطة كانت تعتبر أن احتكار الدين من حقها فقط.
ومعلوم أنه في عهد السادات؛ اعتبرت الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع كسبيل لقطع الطريق على الإسلاميين. وأمام هذه التضييقات أجرت الحركة بدورها أجرت تحالفات مع عدة أحزاب، قبل أن يدخل أعضاؤها بشكل مستقل في الانتخابات البرلمانية (2000 و 2005) التي حصلوا فيها على نتائج مهمة.
وقد سمحت لهم السلطات المصرية بالمشاركة في هذه الانتخابات كمستقلين، لعدة اعتبارات:
1- تمييزهم عن بعض الحركات الراديكالية؛
2- فتح مجال للتهدئة معهم (الإخوان المسلمون) في انتظار الحسم مع الحركات الراديكالية الأخرى؛
3- فتح هذه الإمكانية(نمط من الدمج الجزئي) استجابة لضغوط داخلية وأخرى خارجية.
أما بخصوص أداء الإخوان داخل البرلمان، فقد تميز إجمالا بالطابع الديني الأخلاقي؛ الأمر الذي ميزهم عن حليفهم الوفد، ومعلوم أن معظم مواقفهم تركزت على بعض المسائل السياسية من قبيل: طرح مسألة استمرار فرض حالة الطوارئ، مع توجيه النقد لبعض أمور الفن والتركيز على قضايا دينية أخرى..
وخلال الانتخابات الأخيرة حصل الإخوان على حوالي عشرين (20) بالمائة من مقاعد البرلمان، مما أثار حفيظة وقلق البعض. ولقد جاء هذا الفوز في ظل ظروف محلية ودولية متميزة، فعلى المستوى الداخلي، تنامت المشاكل الاجتماعية والاقتصادية وتصاعد الحراك السياسي المطالب بالتغيير (مظاهرات حركة كفاية على سبيل المثال..)، فيما تزايدت الضغوطات الخارجية على مصر بصدد المطالبة بتبني إصلاحات ديموقراطية أكثر فاعلية.
وفي نفس سياق الحديث عن تجربة مصر، تندرج أيضا مداخلة د.حسام تمام (أستاذ باحث، القاهرة) المعنونة ب: مقاربة سوسيولوجية لتحولات الإخوان المسلمين ومواقفهم وممارساتهم السياسية.
وقد توخى الباحث من خلالها الكشف عن أن الحركة تعيش في السنوات الأخيرة تحولات سماتها:
1- الدخول في العمل السياسي والعمل العام.
2- صيرورة اللاوعي دون تنظير فكري مسبق.
3- وجود فجوة بين التنظير والممارسة.
من الناحية النظرية، لم يحدث أن توقفت الجماعة عن الحديث عن الخلافة الإسلامية، غير أنه في العشر سنوات الأخيرة تبين أن هناك غيابا لهذا المعطى في خطابها، وفي مقابل ذلك طغى فكر محلي عبرت عنه من خلال التركيز على دولة مصر عوض دولة إسلامية كبرى، كما أنه في الانتخابات الأخيرة لم يرفع هذا الشعار(الخلافة الإسلامية)، ومن جانب آخر، تم أيضا الحديث عن إمكانية قبول حزب مسيحي أو رئيس مسيحي منتخب، وهذه تصورات جريئة لا يستطيع حتى الحزب الحاكم طرحها وتعبر في مجملها عن تحول جوهري ملحوظ في المرجعية الفكرية للجماعة.
وفي نفس إطار هذا التحول، فالرؤية الإخوانية للعالم انتقلت من القطيعة إلى التعايش، فلم يعد هناك ترديد لمقولة مواجهة العالم، بل أضحى التركيز على التعايش أكثر منه على الصراع والصدام. وبذلك تلاشت من قاموس خطاباتها مفردات من قبيل: الحروب الصليبية، الشيوعية العالمية.. وأكدت في المقابل على مشروعية مجلس الأمن مثلا…
الجلسة الثالثة: تجارب: سوريا، لبنان، الأردن وفلسطين.
افتتحت هذه الجلسة التي ترأسها د. محمد خيري قيرباش أوغلو (جامعة أنقرة، تركيا) بورقة د.عدنان السيد(الجامعة اللبنانية) تناول من خلالها موضوع: الحركات الإسلامية والمشاركة السياسية في لبنان، حيث انطلق من ملاحظة أولية أشار فيها إلى أن لبنان يعرف تعددا طائفيا، الأمر الذي يتم التعبير عنه عادة بالديموقراطية التوافقية. ففي سنة 1943 تم تأسيس الجمهورية اللبنانية وتم توزيع الوظائف العامة للدولة بشكل طائفي على أساس من المساواة والعدل، وهذا أمر خطير بقي حاضرا حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية (1989). وقد فشل الإعلام بدوره في تثبيت فكرة المواطنة. فأين هي الحركات الإسلامية من كل هذه المعطيات؟
في سنوات الخمسينيات من القرن المنصرم كان نشاط الحركات الإسلامية التي اتخذت شكل جمعيات يقتصر على الثقافة والفن والرياضة، قبل أن يتعزز تواجدها ونفوذها في الحقل السياسي، وهناك ثلاثة أسباب رئيسية عززت هذا النفوذ في لبنان(كما في باقي الدول العربية الأخرى أيضا):
1- هزيمة سنة 1967؛
2- الحرب الأهلية اللبنانية(1975- 1989)؛
3- انتصار الثورة الإيرانية سنة 1979 (وهذا سبب أساسي).
وقد بدأت هذه الحركات في السنوات الأخيرة تشارك في المؤسستين: التشريعية والتنفيذية(الحكومية)، ونذكر هنا حركتان أساسيتان شاركتا في الحياة التشريعية (1992- 2000 و 2000- 2002 ): حزب الله الذي يحتضن في صفوفه مسلمين شيعة ويتبنى المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، والجماعة الإسلامية التي تكونت- في البداية- كجمعية رياضية في الستينيات وكانت لها علاقة مع تيار الإخوان المسلمين.
وإذا كان حزب الله الذي حظي بحلفاء في البرلمان مع نواب سنة ومسيحيين على حد سواء، هو أكثر انتشارا من الجماعة الإسلامية على المستوى الجغرافي، فإن هناك مجموعة من أوجه التشابه ونقط الالتقاء تجمع بين التنظيمين: فما بين سنة 1985 وسنة 1988 كانت هناك مقاومة مشتركة بينهما في الجنوب اللبناني، وناديا معا بإلغاء الطائفية السياسية(مع العلم أنهما معا يكرسانها من خلال التمييز بين السنة والشيعة)، وعبرا غير ما مرة في خطاباتهما عن رفض العلمانية، كما يشتركان أيضا في المطالبة بالعدالة الاجتماعية (مواجهة الفقر..مثلا)، ويتمركزان معا في المؤسسات الجامعية، ولهما تأثير كبير داخل مختلف النقابات المهنية ..
أما بخصوص أدائهما السياسي، ففي بداية ظهورهما جربا معا طرح فكرة الدولة الإسلامية، قبل أن يعدلا عنها، وتجاوزا فكرة الإسلام هو الحل إلى صياغة برنامج سياسي محدد المعالم.
وخلال السنوات القليلة الأخيرة، تبين أن ثمة معاناة وتضييقات يعيشها التنظيمان معا في سياق ما يعرف بالحملة الأمريكية لمكافحة الإرهاب “الدولي”، وبخاصة بعد أحداث 11 شتنبر واغتيال الحريري.
فبعد أحداث 11 شتنبر أضحى حزب الله في موقع الدفاع عن نفسه فكريا وثقافيا في مواجهة الاتهامات الموجهة إليه بصدد الانتماء للائحة الحركات الإرهابية بفعل علاقته مع المنظمات الفلسطينية ومقاومته للاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني، فيما عرفت الجماعة الإسلامية تراجعا، وانكفأت على نفسها في ظل هذه العوامل والمعطيات.
ويظل حزب الله هو الحزب الأول في لبنان على مستوى أداء الخدمات السياسية والاجتماعية على الرغم من عمره القصير مقارنة مع قوى لبنانية أخرى، كما أنه تمكن في السنوات الأخيرة من المشاركة في الحكومة كتجربة فريدة في لبنان حيث رفع تحديا لمكافحة الفساد.
وعلى العموم، يمكن القول أن هناك اقتراب من فهم الدولة عند الحركات الإسلامية اللبنانية، في حين نجد غيابا لمفهوم المواطنة كما هو الشأن في معظم البلدان العربية.
وعبر مداخلته المعنونة ب: تحولات الإخوان المسلمين في سوريا والمشاركة في الحراك الاجتماعي المعارض، حاول د.عمر كوش (باحث من سوريا) أن يرصد تجربة الحركات الإسلامية في سوريا، حيث أوضح في بداية هذه المداخلة أن النظام السوري حرص على طرد كل القوى الحية منذ بداية السبعينيات من القرن المنصرم، نتيجة لمقولة الحزب الواحد والفكر الواحد، بالشكل الذي انتفى معه العمل السياسي، وفي ضوء هذه الشروط، يظل السؤال المطروح هو: كيف يمكن للقوى الإسلامية وهي غير موجودة أصلا في سوريا منذ حوالي أربعين سنة أن تشارك في المؤسسات السياسية والدستورية في ظل نظام الحزب الواحد، وفي ظل حالة الطوارئ المفروضة منذ سنوات الستينيات من القرن الماضي؟
بدأت مشاركة الإسلاميين في الحكم بسوريا منذ سنوات الأربعينيات من القرن المنصرم، ففي سنة 1947 شارك هؤلاء في الانتخابات التشريعية، غير أنه مع مجيء الحزب الواحد ألغيت التعددية، فاعتبر حزب البعث بحسب الدستور السوري قائدا للدولة والمجتمع، مما أثر سلبا على مستوى دور المجتمع المدني وحرية الرأي وحقوق الإنسان…
نتيجة لهذه الظروف، وبعد مواجهة مع النظام السوري، انكفأ الإخوان المسلمون على أنفسهم وتشتتوا في مختلف العواصم الأوربية وبخاصة ببريطانيا وألمانيا، قبل أن يحاولوا بعد ذلك الانفتاح على السلطة؛ غير أنهم لم ينجحوا في كسب تجاوبها وعطفها.
ومع انهيار المعسكر الشرقي، انتعشت المعارضة السورية التي اعتقدت أن الأمور ستتغير باتجاه إصلاح الأوضاع بسوريا نحو الديموقراطية، غير أن الأمور ظلت على حالها.
وأمام هذه المتغيرات الدولية – انهيار المعسكر الشرقي-، حاول الإخوان المسلمون صياغة مجموعة من المطالب المرنة (التي اعتبرت ديموقراطية، لبيرالية، إسلامية..)، بحيث لم يشترطوا قيام الدولة الإسلامية، وأقروا بحق الاختلاف.. وفي الآونة الأخيرة التحق هؤلاء بمختلف فعاليات المعارضة السورية من أجل الضغط على النظام السوري في ظل تزايد المشاكل الداخلية وتنامي الضغوط الإصلاحية الخارجية.
وتظل المشاركة السياسية والممارسة هي الكفيلة بكشف صدقية أو عدم صدقية هذه التوجهات الجديدة التي عبر عنها الإسلاميون في هذا البلد العربي.
أما فيما يخص التجربة الأردنية فقد نبه د.خالد سليمان (الجامعة الأردنية) في مداخلته أن اغتيال زعيم القاعدة في العراق الأردني الأصل (أبو مصعب الزرقاوي) أثر بشكل ملحوظ في مسار مشاركة الإسلاميين في الحياة السياسية الأردنية(وبخاصة بعد حدوث اعتقالات وتضييقات واسعة في صفوف أعضاء إسلاميين في البرلمان، إثر زيارة قام بها البعض منهم لبيت عزاء الزرقاوي في الأردن..). الأمر الذي يعطي انطباعا لدى البعض بإمكانية استثمار النظام الأردني لهذه الأحداث من أجل الإطاحة بالحركة الإسلامية أوتحجيم أدوارها.
قامت حركة الإخوان المسلمين في الأردن كجمعية خيرية سنة 1946 وتبنت بعض مقولات وشعارات الحركة الأم في مصر، وشاركت في انتخابات 1956 و1963، وتأرجحت مواقف السلطات التنفيذية إزاءها بين القبول والموافقة تارة والرفض والتضييق في حالات كثيرة، مع العلم أن هذه الحركة نسجت في بدايات ظهورها الأولى علاقات طيبة مع القصر(على عهد عبد الله الأول) واستمرت على هذا التوافق، قبل أن تتدهور العلاقة سنة 1994 مع توقيع اتفاقية وادي عربة مع إسرائيل، حيث رفضت الحركة التطبيع مع إسرائيل واعترضت على الانسجام القائم بين مواقف النظام الأردني ومواقف الولايات المتحدة وإسرائيل إزاء مختلف القضايا الحيوية دوليا، عربيا وإسلاميا (نذكر على سبيل المثال، قضايا: العراق، فلسطين، أفغانستان، مكافحة الإرهاب..).
وفي بداية التسعينيات من القرن المنصرم شارك الإسلاميون في الحكومة الأردنية بحقائب وزارية غير مهمة لحوالي خمسة أشهر.. ومع ذلك تظل هناك مجموعة من المعوقات التي تحول دون تمكينهم من المشاركة بصفة فعالة في السلطة، فعلى الرغم من أن الحركة – وبناء على دراسات أجراها الباحث نفسه- تعتمد ديموقراطية داخلية مذهلة، وتتبنى خطابا متطورا ومرنا بصدد العديد من القضايا والأمور، إلا أن السلطة لا زالت تتعامل معها بنوع من الشك وعدم الثقة بفعل تزايد الضغوط الأمريكية عليها وبخاصة في ظل ما يسمى بالحملات المرتبطة بمكافحة الإرهاب والتطرف، فالحركة من وجهة نظر النظام الأردني لا زالت بحاجة إلى مزيد من التغيير والمرونة حتى تصبح مقبولة لديها.
وارتباطا بالتجربة الفلسطينية في علاقتها بحركة حماس وضمن مداخلة تلاها أحد الباحثين نيابة عن د.إبراهيم أبراش (جامعة الأزهر، غزة)، جاء فيها أن دخول حركة حماس إلى الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة أحدث تحولا عميقا في النظام السياسي الفلسطيني وطرح مجموعة من التحديات؛ إذ أن هناك مجموعة من التساؤلات التي تطرح بصدد قدرة هذه الحركة في الدفع بتغيير النظام السياسي الفلسطيني؛ وبخاصة في ظل التحديات التي أضحى يفرضها الداخل الفلسطيني والمحيط الخارجي.
إن كونية المبادئ الديموقراطية لا تمنع من وجود خصوصيات محلية يقرها الجميع، ومن هذا المنطق فالديموقراطية في فلسطين تطرح مسألة التوفيق بين شرعيات متناقضة: شرعية منظمة التحرير وشرعية حماس.
والحالة الفلسطينية هي حالة خاصة في الأقطار العربية وتتطلب الأخذ بعين الاعتبار كون فلسطين ليست دولة مستقلة بالمفهوم المتداول والمعروف(غياب سيادة)، مع وجودها تحت الاحتلال، وكون الشعب الفلسطيني يمر بحركة تحرر تؤجل معها الممارسة الديموقراطية باعتبارالمقاومة أولوية ملحة.
لقد ظهرت حركة حماس خارج منظمة فتح، ورفضت الاتفاقيات المبرمة ودعت إلى مقاومة الاحتلال. كما حاولت هذه الحركة التي تعتبر نفسها امتدادا للإخوان المسلمين، أن تتكيف مع مواقف الحركة الأم من جهة ومع الضغوط الدولية من جهة ثانية، قبل أن توافق على دخول الانتخابات التشريعية وتحمل مسؤولية تدبير الشأن العام الفلسطيني.
وإذا كان الفلسطينيون قد راهنوا على هذه الانتخابات باعتبارها مدخلا لترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، وتحقيق الوحدة والمصالحة الوطنيتين، فإن إسرائيل والولايات المتحدة كانتا تتوخيان منها إلهاء الفلسطينيين بالتنافس الانتخابي وضمان دخول حماس للحكم..
وتظل هناك مجموعة من التحديات والمعيقات التي تواجه مشاركة حماس في المؤسسات السياسية: فالاختلاف والتباعد في المواقف بين بينها بين حركة فتح لازال قائما، كما يظل السؤال مطروحا حول: كيف يمكن لهذه الحركة أن تدير الحكومة انطلاقا من مواقفها المرتبطة بالمقاومة وعدم الاعتراف بالكيان الإسرائيلي والضغوط الدولية المتزايدة عليها؟
الجلسة الرابعة: التجربة التركية
راكم إسلاميو تركيا حصيلة مهمة على مستوى المشاركة في المؤسسات السياسية، وتنطوي هذه التجارب على أهمية كبرى، وذلك بالنظر إلى اشتغال الحركات الإسلامية التركية في ظروف وشروط صعبة يفرضها النظام العلماني داخليا والمحيط الإقليمي(أوربا) الذي يتطير من كل حركة إسلامية. وضمن هذا السياق تركزت المداخلات التي حملتها الجلسة التي ترأسها د.عدنان السيد(الجامعة اللبنانية).
فمن جهته حاول د. محمد خيري قيرباش أوغلو (جامعة أنقرة، تركيا) تقييم حصيلة حزب العدالة والتنمية بتركيا، مذكرا في بداية مداخلته - التي حملت مجموعة من الانتقادات التي اعتبرها بناءة - من فكرتين أساسيتين، الأولى: أن الحركات الإسلامية التركية عموما هي ردة فعل على النظام القائم الذي حاول خلق شعب معاصر وتقدمي بناء على اعتبارات علمانية لا على أساس هوية إسلامية، والثانية: أن الهامش المتاح للأحزاب السياسية في مجال صناعة القرار السياسي داخل الدولة ضعيف جدا؛ وذلك بالمقارنة مع مؤسسات سياسية ودستورية أخرى.
لم يسبق للحركة التي حصلت على نسبة مهمة من مقاعد البرلمان في انتخابات سنة 1997 أن ادعت بأنها حزب سياسي ولم تطالب قط بقيام دولة إسلامية، كما أنها تبنت هوية إسلامية محافظة.
وعلى امتداد أكثر من ثلاثين (30) سنة على ظهور هذه الحركة، وعلى الرغم من انتقاداتها المتواصلة للنظام التركي، إلا أنها لم تستعمل أي شكل من أشكال العنف في مواجهته من أجل الوصول إلى السلطة، كما أنها لم ترفض النظام العلماني ولم تقترح دستورا جديدا..
ومن خلال رصد تطور مسارها التاريخي، يتبين أنها تعتمد على الخطاب والمظاهر أكثر منهما على العمل، فخطابها السياسي الداخلي يوحي برغبتها في إعادة بناء الدولة عل أساس الفكر الوطني، غير أن الواقع يبرز بأنها يوتوبية وغير علمية، كما لم تبد حماسا تجاه فعاليات المجتمع المدني (اعتمادها على السياسة الاقتصادية الحكومية وتهميشها في المقابل لفعاليات المجتمع المدني)، ولم تلتفت لأهمية وسائل الإعلام.. وعلى مستوى آخر، لم تتمكن الحركة من تحليل الأوضاع المجتمعية سياسيا ودستوريا، وكذا بالنسبة للقضايا الخارجية الحيوية، ولم تدرك أهمية إعادة النظر في مرجعياتها وتجديد فكرها، فهي ظلت في منأى عن الانفتاح على مختلف الدراسات التي تجسد الفكر الإسلامي المعاصر.
وعلى مستوى تدبير الشؤون الداخلية للحركة، يلاحظ غياب الشورى والممارسة الديموقراطية، أما نظرتها للمرأة فيغلب عليها طابع الاستعلاء، بحيث لا تتاح لها إمكانية تقلد منصب في الحزب أو الحكم.
وبخصوص الموقف من القضية الفلسطينية، فيبدو أن هناك نوعا من التناقض والاضطراب، فما تحمله شعاراتها بصدد دعم القضية الفلسطينية؛ يقابله في نفس الوقت تأييد للسياسة الأمريكية بخصوص مشروع الشرق الأوسط الكبير.. والإقبال على نسج علاقات في مختلف المجالات والميادين مع الكيان الإسرائيلي.
ونظرا لوجود حالات من التوتر في علاقتها مع السلطة التي مارست ضغوطا كبرى في مواجهتها، فإن الحركة لا تزال في موضع الشك والارتياب من حيث ولائها للنظام والمؤسسات.
لقد كانت تجربة الحركة بزعامة أربكان ناجحة على المستوى الاقتصادي وفي مجال محاربة الرشوة مقارنة مع فترة أردوغان. ومع تجربة حزب السعادة تبين أن هناك مجموعة من الانحرافات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والديني، بالشكل الذي أسهم في تراجع الحركة، وفي المقابل حققت هذه الأخيرة نجاحا كبيرا على مستوى تسيير الجماعات المحلية.
أما د.محمد العادل (مركز الدراسات الاستراتيجية، أنقرة – تركيا) وفي سياق رصده للتجربة التركية ضمن تصور آخر، لاحظ أن هناك خصوصية تميز الحركة الإسلامية في تركيا، فواقع هذه الأخيرة لم يأت صدفة، بل هو نتاج تضحيات أجداد هذه الحركة منذ 1920، فقد كانت هناك حركات منذ فترات تاريخية مبكرة ولكن تمت إبادتها وقتل شيوخها في بداية الثورة الكمالية. مع العلم أن هذه الحركات كانت مستقلة، ولم تتأثر بالتيارات الإخوانية الخارجية، فهي بذلك تيارات تركية أصيلة، ونذكر من بينها: الحركة النقشبندية التي هي حركة عريقة ثم الحركة النورسية(نسبة لسعيد النورسي)…
أما فيما يخص علاقة هذه الحركات بالنظام العلماني، فلم يكن للثورة الكمالية عداء نحو التدين بقدر ما كان عداؤها ينصب على ربط الدين بالسياسة، وأكثر من ذلك، فقد كان لهذا النظام الفضل الكبير في تهييء الأجواء الديموقراطية التي تسمح لهذه الحركات بالعمل شريطة عدم تهديد بنيان نظام الدولة. وفي المقابل، لم تدع هذه الحركات إلى تطبيق الشريعة الإسلامية واكتفت بالدعوة إلى أسلمة المجتمع.
أما مشاركة هذه الحركات في المؤسسات السياسية فلم تتخذ الطابع المباشر دائما، بل كانت هناك أحزاب تتفاوض مع الطرق والحركات لدعمها، الأمر الذي سمح بوجود أفراد من هذه الحركات منذ سنوات الخمسينيات من القرن المنصرم بالبرلمان، هذا بالإضافة إلى ترشيح أعضاء بصفة مستقلة.
إن هذه مجمل هذه الخصوصيات تنطوي على أهمية كبرى، لأنها تساعد على فهم تركيبة الإسلاميين في تركيا.
وهناك مراحل تاريخية تجسد تطور الحركات الإسلامية في تركيا ينبغي استحضارها: فمرحلة حكم أتارتورك 1920- 1938 ومرحلة 1938 – 1950 عرفتا بروز مجموعة من الأحزاب، كما تميزتا أيضا بمواجهة بين الحركات الإسلامية والتيارات القومية وغلب فيهما طابع الحزب الواحد على المشهد السياسي. وعرفت الفترة الممتدة ما بين سنتي 1950 و1960 العودة بالآذان إلى اللغة العربية وإعادة الاعتبار للتعليم الديني، وخلال مرحلة 1965- 1980 ظهر حزب النظام الوطني (نجم الدين أربكان) وهو خليط من الإسلاميين المتأثرين بحركة الإخوان وجماعة النور وجماعة النقشبندية، كنتاج لبروز ثقافة التحالفات في ممارسة هذه الحركات. أما مرحلة 1983-1993 التي عرفت بفترة توركت أوزال الذهبية، فقد شهدت تأسيس حزب الوطن الأم الذي حصل على أغلبية مقاعد البرلمان وأسهم بشكل كبير في إعادة الاعتبار إلى التعليم الديني. وخلال هذه الفترة تنبهت الحركة لأهمية الاقتصاد وتحولت إلى قوة اقتصادية، حيث ظهرت شركات مهمة تابعة للإسلاميين، مما منح الإسلاميين طابع الاستقرار.
لقد استفاد حزب العدالة والتنمية (الذي لا يصنف في تركيا كحزب إسلامي) من المراحل التي مرت بها الحركة الإسلامية تاريخيا ومن أخطاء حكومة حزب الرفاه ومن الأجواء الديموقراطية المتاحة في تركيا، مما سمح له بالنمو والتطور.
وتحت عنوان: الإسلام والحداثة السياسية في التجربة التركية من خلال تجربة حزب العدالة والتنمية، قدم د.عبد الله تركماني (الجامعة التونسية) مداخلة قيمة؛ اعتبر فيها أن الحزب(العدالة والتنمية) يشكل نموذجا يستحق التأمل في العالم العربي، وبخاصة من قبل تلك الأحزاب التي تبحث عن المزاوجة بين الإسلام والحداثة.
فهذا النموذج يقدم مثالا حيا حول إمكانية الجمع بين الإسلام والحداثة، ويرد على كل من يرفض أو ينكر هذه الإمكانية وبقدرتها على تدبير الشؤون الداخلية أو الخارجية.
إن نقطة الضعف في تجربة هذا الحزب كانت هي المؤسسة العسكرية، فكيف نفسر صعود نجم هذا الحزب رغم الإكراهات التي كانت تفرضها هذه المؤسسة؟
إن أسباب هذا الصعود متعددة وتتنوع بين عوامل مباشرة وأخرى غير مباشرة:
فقد وصل الشعب التركي إلى مرحلة كشف فيها “ضلال” النخبة العلمانية، وتزامن صعود حزب العدالة والتنمية مع تنامي توحش العولمة وانخراط الشعب التركي في البحث عن ثقافته وهويته التي يشكل الإسلام جزءا مهما منها، وبخاصة وأن العلمنة التركية ومنذ سنة 1923 لم تأت في سياق جدل داخلي ولكنها عبارة عن “قشرة” ألصقت بالمجتمع التركي بعدما مورس العنف لفرضها.
ومن جانبه استطاع حزب العدالة والتنمية أن يوظف مختلف التحولات السياسية والاجتماعية في تصوراته وبرامجه، فهناك انتقاد ذاتي داخل الحركة، ونزوح عن الكارزمية والزعامات، والإيمان بالعمل الجماعي، مع الاهتمام بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والابتعاد عن المماحكات(كتلك المرتبطة بمشكل الحجاب..) والتأكيد على عدم تهديد النظام العلماني والقبول بإمكانية الانضمام للاتحاد الأوربي.
وداخل هذه التحولات عبر الحزب (العدالة والتنمية) الذي لا يدعو إلى تبني دستور إسلامي؛ على أن هويته علمانية مؤمنة، تتمحور بالأساس حول احترام حرية كل شخص.
إن أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه التجربة في الفضاء التركي تتلخص في كون النظام الديموقراطي السلمي هو القادر وحده على إحداث التغيير، فيما يظل الاعتقاد بامتلاك الحقيقة أمرا سلبيا وعائقا ضد كل حراك ديموقراطي.
ولعل هذه التجربة الناجحة تقدم للعرب درسا قوامه: ضرورة توفير فضاء ديموقراطي كفيل بخلق مناخ سياسي يتيح تنافسا سلميا بين مختلف الفاعلين بتوجهاتهم المتباينة.
الجلسة الختامية: خلاصات وتوصيات
توجت الندوة بتقرير ختامي قدمه د.امحمد مالكي (مدير مركز الدراسات الدستورية والسياسية، مراكش) تضمن مجموعة من الخلاصات والتوصيات التي تمحضت عنها أشغال هذه الندوة.
لقد مكنت هذه الأخيرة من الاطلاع على العديد من التجارب المرتبطة بمشاركة القوى والحركات الإسلامية في المؤسسات الدستورية بمختلف الأقطار العربية وتركيا والكلفة السياسية لذلك..، كما أتاحت إمكانية طرح أسئلة عميقة ترتبط بعلاقة الدين بالسياسة، والانتقال من الخطاب الدعوي إلى الممارسة السياسية، ومدى حقيقة التخوف من مشاركة الحركات الإسلامية في الحياة والمؤسسات السياسيتين، وعلاقة هذه الحركات مع القوى والأحزاب السياسية الأخرى، بالإضافة إلى حقيقة الازدواجية في خطاب الحركات الإسلامية (أي الظاهر منها والخفي)، والتكتيك والاستراتيجية في خطاباتها وممارساتها، وإشكالية الوضوح النظري والفكري لديها من قضايا مهمة: الديموقراطية، المواطنة، المشاركة، المحيط الدولي، الاقتصاد.. مع الوقوف على التجربة التركية وما يحيط بها من إشكالات.
وعلى مستوى التوصيات التي خلصت إليها الندوة، فقد تركزت في ضرورة تبيئة هذه الحركات وتهيئتها للدخول في غمار تجربة ديموقراطية كباقي الفاعلين، مع الإشارة إلى ضرورة تخلي بعضها عن أسلوب التكفير والإلغاء والإقصاء في مواجهة مخالفيها في الرأي، واعتماد تجديد الفكر الإسلامي، وبخاصة وأن الفقه الإسلامي هو جد ضعيف مقارنة مع حجم المشاركة السياسية، وكذا الانفتاح على كتابات بعض الإصلاحيين التاريخيين.
وعموما، يمكن القول أنه وعلى الرغم من وجود نوع من الإيمان والإقرار بالأسس الديموقراطية من قبل بعض القوى الإسلامية، يظل استيعاب تحديات المحيط الدولي وبلورة تصور واضح ومحدد حول الإسلام، أحد أكبر المشاكل التي تواجه هذه الحركات.
::. د.إدريس لكريني (أستاذ باحث، كلية الحقوق، مراكش)مراكش: 16 و 17 يونيو/ حزيران 2006
وإذا كانت بعض الدول العربية قد فضلت التعايش مع الحركات الإسلامية؛ مما مكن هذه الأخيرة من الوصول إلى البرلمان وتقلد مناصب حكومية..، فإن دولا أخرى اختارت منطق التضييق والإقصاء في مواجهتها.
وإسهاما منه في رصد تجارب مختلف هذه الحركات- سواء تلك التي اعتمدت المشاركة كخيار لها وأتيحت لها الفرصة في ذلك، أو تلك التي أبدت الاستعداد وتبذل جهودا من أجل هذه المشاركة- ضمن المشهد السياسي والدستوري في المنطقة العربية وتركيا؛ بغية الوصول إلى فهم تصورها إزاء العمل السياسي؛ ومنظورها لمختلف الفاعلين واستخلاص بعض النتائج منها.. نظم مركز الدراسات الدستورية والسياسية بمراكش ندوة دولية في موضوع: الحركات الإسلامية المشاركة في المؤسسات السياسية في البلاد العربية وتركيا، وذلك يومي 16 و 17 يونيو/ حزيران 2006 عرفت مشاركة مجموعة من الباحثين من مختلف الأقطار العربية وتركيا.
الجلسة الأولى: تجربة دول المغرب العربي: ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب
ترأس الجلسة د.عبد الإله بلقزيز(جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء، المغرب) الذي أشار في مستهل كلمته إلى أن أهمية موضوع الندوة تنبعث من حجم الأسئلة الكبرى التي تطرحها مشاركة هذه الحركات في المؤسسات السياسية، وما تخلفه من نتائج وتداعيات، وانعكاساتها على تشكيل المجال السياسي العربي، وما يصاحب ذلك من تساؤلات تثار بصدد حدود صدقية الخيار الديموقراطي الذي رست عليه حركات إسلامية عديدة في الدول العربية بعد مراوحات بين السياسة والعنف.
وعن التجربة الليبية في هذا الخصوص، وضمن مداخلة عنوانها: الحركات الإسلامية والسلطة في ليبيا، بين ماض مقبول وحاضر مرفوض. أكد د. مصطفى عمر التير(جامعة الفاتح - طرابلس) على أنه خلال القرن التاسع عشر، ظهرت حركة دينية مسلحة واجهت الاحتلال الأجنبي، وهي الحركة السنوسية التي تشبه الحركة المهدوية في السودان والحركة الوهابية في السعودية..، قبل أن تحقق انتشارا واسعا وتشكل قوة عسكرية مهمة في مواجهة كل من الاحتلالين الفرنسي والإيطالي.
وكانت ليبيا من بين الدول العربية التي حرم فيها عمل أحزاب الحركات الإسلامية الحديثة منذ عهد الملكية، علما أن برامج الإخوان المسلمين وصلت إلى ليبيا منذ سنوات الأربعينيات من القرن الماضي بفضل بعض الأشخاص الوافدين من مصر.
وعندما قامت ثورة القذافي في أواخر الستينيات من القرن المنصرم، تم رفع شعار: من تحزب خان، وعلى الرغم من ذلك، لم تتخذ الدولة إجراءات زجرية وعقابية ضد الإخوان المسلمين، بل عمل رجال الثورة على ألا يتولى هؤلاء مناصب حساسة تسمح لهم بنشر أفكارهم، قبل أن تمارس الدولة الطرد والعقاب في حقهم، بعدما أخذت هذه الحركات تتسرب من بلدان عربية أخرى وتنتظم في شكل جماعات صغيرة وخلايا سرية تحمل أسماء خارجية، ولعل هذا ما يفسر وجود أعضاء عديدين من تنظيمات إسلامية ليبية يقبعون في السجون: مجموعة الجهاد، التكفير والهجرة، الجماعة الإسلامية المقاتلة، التجمع وسرايا المقاتلين…
ويلاحظ أنه وعلى الرغم من تعزيز ليبيا لإجراءاتها الأمنية والسياسية لمواجهة هذه الحركات، إلا أن هذه الأخيرة تحاول من حين لآخر نشر أفكارها وتصوراتها في أوساط المجتمع الليبي.
وعلاقة بالتجربة المغربية، وفي محاولة منه لقراءة مسار حزب العدالة والتنمية، اعتبر ذ.عبد السلام الطويل (باحث من المغرب) أن هناك معيارين لقياس الأصول التاريخية للحزب، المعيار الأول: شكلي؛ ويربطها بحزب الحركة الشعبية باعتبار الحزب(العدالة والتنمية) استمرارا لها وذلك اعتمادا على تقارب المرجعيات.
والمعيار الثاني: موضوعي؛ يعتبر الحزب امتدادا لحركة الجماعة الإسلامية المنبثقة عن الشبيبة الإسلامية المتفككة، وبخاصة عقب تورطها في عدة اغتيالات وأعمال عنف وتفرعها إلى مجموعة من الاتجاهات والتيارات.
لقد كان هناك حوار متواصل مع دوائر السلطة منذ سنوات الثمانينيات انصب على مشاركة الحركة- التي أفضت إلى قيام الحزب- في الحياة السياسية، حيث قدمت عبر مجموعة من السلوكات والبيانات(كالتصويت بنعم خلال مجموعة من الاستفتاءات) مؤشرات تعطي انطباعا يوحي باعتدالها، كما حرصت على تقديم طلب لتأسيس حزب سياسي، فيما كانت السلطة تنتظر الوقت المناسب لكي تتبلور شروط هذه المشاركة، قبل أن يتحقق ذلك بشكل تدريجي ومدروس.
إن حزب العدالة والتنمية يقدم وظيفة جيدة للملكية تتجلى في خلق نوع من التوازن الذي يخدم استراتيجية الدولة مع أكبر حركة إسلامية خارج اللعبة السياسية: العدل ولإحسان التي لازالت تشتغل خارج قواعد اللعبة السياسية. وأمام وجود حركات مناوئة علمانية وإسلامية، يظل السؤال مطروحا: هل سيستمر الحزب في القيام بهذه الوظيفة؟ أم أنه سيتوجه نحو تأسيس تحالفات جديدة أخرى بعيدا عن مصالح الدولة؟
وبعد سنوات من دخوله معترك المشاركة في المؤسسة البرلمانية، أضحى حزب العدالة والتنمية يثير مجموعة من الملاحظات والتساؤلات: فهو لا زال يجمع بين النشاط الحزبي من جهة والعمل الحركي من جهة ثانية، وذلك بالمقارنة مع مكونات سياسية أخرى، كما أنه وفي ظل الأزمة التي يعيشها إعلامه المكتوب والتي لا تنسجم مع متطلبات العصر والمرحلة، يثار السؤال حول أية إمكانية ناجحة يمكن توقعها فيما يخص تحمله للمسؤوليات الحكومية في المستقبل؟
إن المغرب بلد إسلامي، والدستور المغربي يؤكد على ذلك، فبأي مبرر يستمر الحزب في تركيزه على المرجعية الإسلامية مادامت هذه مرجعية الدولة بأسرها.
وبغض النظر عن هذه الملاحظات، يظل حزب العدالة والتنمية من أكثر الأحزاب المغربية المؤهلة لإخراج المغرب من أزماته، والقيام بأدوار مهمة وطلائعية على مستوى تدبير الشأن الحكومي، وبخاصة إذا ما توافرت بعض الشروط، فهناك ديموقراطية داخلية حقيقية لا يمكن إنكارها، وترشيحات للبرلمان من داخل الإطار، وتناوب داخلي حقيقي وأداء جيد داخل البرلمان وحضور مستمر لجلساته…
وفي مقاربة أخرى ترتبط بنفس الحزب، انطلق د.محمد الطوزي (كلية الحقوق، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء، المغرب) من طرح سؤال: ما هي شروط وظروف وملابسات مرور حزب العدالة والتنمية من حركة دعوية لها مرجعية نظرية، إلى حركة سياسية لها مقومات أخرى؟
إن المسار التاريخي يعطي بعض المفاتيح الكفيلة بفهم خصوصية الحركة الإسلامية في المغرب، فالفضاء المغربي له خصوصيات أتاحت إمكانية بروز حركة إسلامية قطرية، كانت علاقتها مع مثيلاتها في العالم العربي ضعيفة، وبخاصة وأن البلد عرف نوعا من النفور من المد الناصري في الستينيات من القرن الماضي، وذلك بالنظر لموقف جمال عبد الناصر من الصراع المغربي- الجزائري.. وهذا ما يفسر كون العلاقة بالإخوان - الذين جاؤوا للمغرب بمحافظ ناصرية - كانت جد ضعيفة، على الرغم من وجود مرجعية الإخوان كأفق معرفي وإيديولوجي لدى الحركة الإسلامية في المغرب.
عرف الحقل الديني المغربي حركات معتدلة كالإصلاح والتجديد مع وجود حركة شاذة هي العدل والإحسان التي توازي بين مرجعيتين: صوفية وإسلامية من حيث وتكوينها وتأطيرها وفكرها، وهي تعتمد على مرجعية إسلامية تقليدية محافظة على مستوى شرعنة الحكم.
وهناك مرتكزات عديدة اعتمدت عليها الحركة للمرور من حركة دعوية:
1- اختيار البراغماتية كمرجعية أساسية.
2 - القطيعة المبكرة مع أدبيات المحنة(سيد قطب).
ولعل هذا ما مكن من بروز فكر نقدي داخل الحركة نفسها؛ وهو ما تبلورمن خلال مجموعة من الكتابات.
جاءت المشاركة الأولية في بداية التسعينيات من خلال الحركة الديموقراطية الشعبية الدستورية من أجل طلب التميز، ويمكن القول أن هذا التدرج ساعد الحركة على تجاوز مجموعة من العراقيل.
وفيما يتعلق بمخلفات وعواقب المرور من حركة دعوية إلى حزب سياسي:
فعلى المستوى العقائدي: اضطرت الحركة إلى التخلي عن المهارات الدعوية والاعتراف بالازدواجية بين الحركة والحزب.
وعلى المستوى التنظيمي: تمت إعادة هيكلة الحزب، وأصبح للنخبة البرلمانية سلطة مهمة داخله؛ على عكس الدعاة المحليين الذين لم تعد لهم نفس القوة التأطيرية والتعبوية.
وحول تجربة حركة حماس الجزائرية، انطلق د.احميدة النيفر (جامعة الزيتونة - تونس) من مجموعة من الأسئلة التي اعتبرها أساسية من أجل فهم الحركة: لماذا هذا التخوف الشديد من الحركات الإسلامية في المشهد السياسي العربي؟ وهل هذا التخوف مبالغ فيه؟ أم أن هناك أسبابا موضوعية تبرر هذا الرعب؟
إن هناك مجموعة من المؤشرات التي تثير نوعا من الرعب إزاء هذه الحركات، من قبيل الإطلاقية التي تعبر عنها بصدد امتلاك الحقائق، وادعاء النقاوة الإيديولوجية بالإضافة إلى التداخل الهيكلي والتنظيمي بين صفتها كحركات للتنشئة والتأطير والتربية والدعوة وصفتها كحزب سياسي يبتغي إدارة الشأن العام.
تستمد حركة حماس الجزائرية مبررات معركتها من واجهتين: الأولى أجنبية خارجية، وبخاصة بعد انهيار المعسكر الشرقي وما تلاه من فرض الهيمنة الأمريكية، والثانية مرتبطة بمأزق داخلي، حيث تعتبر أن الإسلام هو الحل لجميع المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتخبط في البلاد.
وترفض الحركة - التي تحاول أن تعتمد خطابا إسلاميا عقلانيا- كل مظاهر العولمة، وإذا كانت في منطلقاتها إخوانية، فهي في العمق حركة جزائرية وليست مشرقية؛ كما أنها لا تأخذ بالشعارات العامة، حيث حرصت على الارتباط بالتراث الجزائري ومشاكل الجزائر. ومنذ بدايات ظهورها، اعتمدت في أساليبها على نصيحة أولي الأمر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما تلافت إطلاق أي مواقف تكفر الدولة.
وما بين سنتي 1978 و1988 حدثت تحولات كبيرة؛ وبرزت مجموعة من المشاكل الاجتماعية بالجزائر بعد وفاة الرئيس بومدين، وهنا أسهمت الحركة بشكل واضح في التضييق على خيار العنف بالشكل الذي انعكس على المصالحة الوطنية نظرا لعقليتها الوفاقية بين الإسلاميين والعلمانيين، وقد وافقت السلطات على مشاركتها السياسية على عكس بعض الدول العربية.
إن تقييم تجربة حماس في السلطة بعد الفترة الدموية التي شهدتها الجزائر في بداية التسعينيات، يبرز أن مشاركتها بدت وكأنها غاية في حد ذاتها – تأهيل كوادرها لتسيير دواليب الدولة-، كما أن الحركة لازالت تتأرجح بين كونها حزبا سياسيا حديثا وحركة شعبوية تحشد الناس تحت شعارات كبرى لأغراض انتخابية.
وضمن نفس السياق، وارتباطا بالتجربة الجزائرية أيضا، جاءت مداخلة د.عروس الزبير (جامعة الجزائر)، التي أشار في مستهلها إلى أن الجزائر عرفت بعد سنة 1989 تأسيس حوالي ستين (60) حزبا سبعة وخمسون (57) منها معتمد وخمسة (5) منها ذات توجهات إسلامية: حزب التجديد، الجزائر المعاصر، الجبهة الإسلامية للإنقاذ، حركة حماس وحركة النهضة اللتان سيتم التركيز عليهما.
إن أول حزب جزائري اعتمد المرجعية الإسلامية تأسس سنة 1947 وفقا للقوانين الفرنسية، - وهو أيضا أول حزب إسلامي ظهر في المنطقة العربية- وكان يعرف باسم حزب الوحدة، وهذا معطى مهم سيوفر أرضية لبلورة مواقف سياسية لكل من حزبي النهضة وحماس الذي يمثل الاتجاه العالمي لحركة الإخوان المسلمين وهما – للإشارة- بدأتا كحركتين جمعويتين.
فحركة النهضة دخلت النشاط السياسي ونهجت المعارضة الصريحة بعد توقيف الانتخابات واستقطابها لأعضاء من جبهة الإنقاذ من دون أن تشارك في الحكم، على عكس حركة حماس التي بدأت مشاركتها بطريقة غير شرعية سنة 1992 بعد توقيف المسار الانتخابي بدخولها المجلس الوطني الانتقالي وهو ما اعتبر- من قبل البعض - في حينه موقفا خطيرا.
دخلت حركة النهضة المجلس التشريعي بقوة في انتخابات 1997، لتنقسم بعد ذلك إلى تيار معتدل وآخر معارض.
أما حركة حماس التي تأسست سنة 1990 فقد كان هدفها الأول هو مواجهة خطر العنف في الجزائر، وبدورها شاركت في المؤسسات الدستورية، كما شاركت أيضا في تسيير شؤون الحكم، حيث شغلت وظائف حكومية، ولم تتح لها إمكانية تسيير بعض الحقائب الحكومية وبخاصة تلك المتعلقة منها بشؤون الثقافة والتربية والتعليم، الأمر الذي يعبر عن نوع من علاقة عدم الثقة مع النظام رغم أنها اعتمدت مواقف منسجمة إلى حد التماهي مع مواقف مؤسسة رئاسة الدولة.
ومن جانبه حاول د. اعلية العلاني (الجامعة التونسية) أن يرصد تجربة تونس في هذا الإطار من خلال التركيز على حركة النهضة التي كان لها دور كبير في منطقة المغرب العربي، وهي حركة وإن لم تكن تهدف إلى المشاركة السياسية؛ فقد كانت ترغب في أسلمة السلطة، حيث نهجت سبيل العمل السري، وفي سنة 1980 اكتشفها الأمن وطالبها بالعمل العلني.
اتخذت الحركة ضمن وسائلها المسجد كفضاء للتأطير ونشر أفكارها (معاداة الغرب، التهجم على اللائكية…) التي اعتبرت نقيضا لدولة الحداثة، وهكذا ستأتي محاكمات سنة 1981، مما سيدفع الحركة إلى الدخول في ردة الفعل وهو ما سينتج عنه أحداث كبرى أسهمت بقدر كبير في تقوية هذه الحركة، بالشكل الذي أضحت معه رقما أساسيا داخل تونس.
لم تكن حركة النهضة حركة تونسية المنشأ، فقد كان ولاؤها كبيرا للإخوان المسلمين في مصر، مما يفسر طبيعة أدبياتها التي كانت في مجملها إخوانية، كما أنها كانت توجه انتقادات للحركات الإصلاحية التي ظهرت في القرن التاسع عشر (19) وبخاصة تلك التي قادها كل من محمد عبده، الكواكبي والأفغاني… واتهمتها بأنها لا تمثل الإسلام الصحيح.
وعرفت الحركة في مسارها مخاضا بين المشاركة والمواجهة، علما أن المواجهة – التي كانت مسؤولة عنها في غالب الأحيان - كانت أكثر حضورا ضمن سلوكها (للإشارة فمنذ بداية التسعينيات وإلى حدود الآن، تعيش الحركة مرحلة المواجهة). وقد ارتكبت الحركة أخطاء كثيرة، وتبين في مرات عديدة أنها لا تتحكم في خطاباتها، ففي سنوات الثمانينيات وقعت الحركة في خطأ كبير حيث راهنت على الوصول للسلطة سلميا و إلا بالعنف.
وبعد سنة 1987 برز نظام جديد بتونس قبل بمبدأ مشاركة سياسية محدودة عبر عنها بمجموعة من المؤشرات: خلق مجلس الميثاق الوطني والمجلس الإسلامي الأعلى، وتنظيم الانتخابات البرلمانية لسنة 1989..
أمام هذه المعطيات برز نداء من داخل الحركة يدعو إلى ضرورة إعادة تقييم أدائها ومراجعة ذاتها في تعاملها مع السلطة ومع الجماهير. وهكذا تبلورت لديها مواقف جديدة بصدد قضايا ومواضيع حيوية عدة(مواقفها مثلا من: حقوق الإنسان، ومن الغرب، والتخلي عن المسجد كفضاء للتأطير والشحن..)، وفي خطوة شاذة منها دخلت الحركة في تحالفات جديدة مع اليسار الراديكالي ومع قوى وسطية.
وفي ظل هذه المراجعة لتكتيكها السياسي، يظل السؤال مطروحا حول إمكانية إعادة النظر في مرجعيتها النظرية؟ وبخاصة وأنها لازالت تقسم الناس بين مؤمنين وملحدين، ووجود تصريحات داخل الحركة تتحدث على أن هذه الأخيرة هي حركة ربانية. وهي المعطيات التي دفعت ببعض الباحثين إلى مطالبتها بضرورة توضيح مجموعة من مواقفها المبهمة قبل إقحامها في أية مشاركة سياسية.
الجلسة الثانية: التجربتان: السودانية والمصرية
تحفل كل من التجربتين السودانية والمصرية بمعطيات مهمة ضمن هذا السياق، وذلك بالنظر إلى تراكمهما التاريخي وانخراط هذه الحركات في مشاركة متباينة في أهدافها وأشكالها وأبعادها، بالشكل الذي يجعل منها مختبرا غنيا بالنسبة للباحثين والخبراء في هذا الشأن. وتضمنت هذه الجلسة التي ترأسها د.مصطفى عمر التير(جامعة الفاتح - طرابلس) ثلاث مداخلات غنية، ففي الموضوع الأول الذي حمل عنوان: الحركة الإسلامية السودانية والمشاركة السياسية؛ التي تلاها أحد الباحثين نيابة عن د. حيدر إبراهيم (مركز الدراسات السياسية- الخرطوم) أكد هذا الأخير على أن الحركة الإسلامية في السودان تختلف عن مثيلاتها في الدول العربية؛ لارتباطها بحركة التحرر في البلاد. فقد ظهرت منذ منتصف الأربعينيات من القرن المنصرم، ولم يتم اضطهادها كما هو الحال بالنسبة لمعظم الدول العربية، غير أنها اعتمدت بعد ذلك أسلوب الانقلاب كوسيلة من أجل الوصول إلى الحكم.
وبخصوص الحركة الإسلامية السودانية التي تزعمها الترابي فقد واجهت الشيوعيين ورفعت شعارات عديدة تمحورت حول المناداة باعتماد دستور إسلامي وبتطبيق الشريعة الإسلامية، مما أكسبها الكثير من المؤيدين، وبخاصة وقد كان شعار تطبيق الشريعة أكثر جاذبية من الاشتراكية، مما سيتيح لها فيما بعد إمكانية عقد تحالف مع النميري الذي طبق الشريعة الإسلامية، وهو ما اعتبرته الحركة في حينه إنجازا كبيرا وانتصارا لها، وقد منحت هذه الإمكانية سلطة دينية مطلقة مستبدة للنظام، حيث اعتبرت كل معارضة له بمثابة معارضة للشريعة الإسلامية ذاتها.
وبعيدا عن الشعارات والخطابات، كشفت الحركة عن موقفها الحقيقي من الديموقراطية بعد وصولها إلى الحكم؛ بحيث لم تستطع تكريس ممارسات ديموقراطية حقيقية ضمن سلوكها، لتكتفي بالدخول في جدل عقيم حول الشورى، وعجزت عن تطبيق الشورى والديموقراطية وهي على رأس السلطة، وتبنت الرؤية الأحادية ومنعت الاختلاف والتعدد، ووقعت في ارتباك بين خيارين: الانتماء للوطن أم للأمة، ولم تعلن بذلك موقفا واضحا تجاه الوطنية والقومية، غير أن سلوكها كان يعطي الانطباع بميلها للأمة الإسلامية.
وفيما يخص العلاقة مع غير المسلمين، فالحركة تؤمن بمقولة أهل الذمة وتسقط حقوق غير المسلمين وتقر بعدم التكافؤ في تقلد المناصب، على الرغم من وجود مواطنين سودانيين غير مسلمين، كما أنها كانت تعتبر الحرب في الجنوب السوداني جهادا (أي مؤمنين ضد كفار).
أما د. نبيل عبد الفتاح( باحث بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة) وفي سياق حديثه عن التجربة المصرية في هذا الصدد، حاول في مداخلته تقييم حصيلة الإخوان المسلمين في الانتخابات التشريعية المصرية الأخيرة (سنة 2005).
حيث لا حظ في البداية أن هناك توجها جديدا لدى الجماعة - التي اعتادت العمل في الدعوى وليس في السياسة - نحو تلافي البعد الانقلابي كنمط وخيار للوصول إلى السلطة.
لقد برز صراع تاريخي بين الإسلاميين والسلطة (رجال الثورة) أفرز معه محطات عديدة من الاضطراب والتوتر، وبخاصة وأن السلطة كانت تعتبر أن احتكار الدين من حقها فقط.
ومعلوم أنه في عهد السادات؛ اعتبرت الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع كسبيل لقطع الطريق على الإسلاميين. وأمام هذه التضييقات أجرت الحركة بدورها أجرت تحالفات مع عدة أحزاب، قبل أن يدخل أعضاؤها بشكل مستقل في الانتخابات البرلمانية (2000 و 2005) التي حصلوا فيها على نتائج مهمة.
وقد سمحت لهم السلطات المصرية بالمشاركة في هذه الانتخابات كمستقلين، لعدة اعتبارات:
1- تمييزهم عن بعض الحركات الراديكالية؛
2- فتح مجال للتهدئة معهم (الإخوان المسلمون) في انتظار الحسم مع الحركات الراديكالية الأخرى؛
3- فتح هذه الإمكانية(نمط من الدمج الجزئي) استجابة لضغوط داخلية وأخرى خارجية.
أما بخصوص أداء الإخوان داخل البرلمان، فقد تميز إجمالا بالطابع الديني الأخلاقي؛ الأمر الذي ميزهم عن حليفهم الوفد، ومعلوم أن معظم مواقفهم تركزت على بعض المسائل السياسية من قبيل: طرح مسألة استمرار فرض حالة الطوارئ، مع توجيه النقد لبعض أمور الفن والتركيز على قضايا دينية أخرى..
وخلال الانتخابات الأخيرة حصل الإخوان على حوالي عشرين (20) بالمائة من مقاعد البرلمان، مما أثار حفيظة وقلق البعض. ولقد جاء هذا الفوز في ظل ظروف محلية ودولية متميزة، فعلى المستوى الداخلي، تنامت المشاكل الاجتماعية والاقتصادية وتصاعد الحراك السياسي المطالب بالتغيير (مظاهرات حركة كفاية على سبيل المثال..)، فيما تزايدت الضغوطات الخارجية على مصر بصدد المطالبة بتبني إصلاحات ديموقراطية أكثر فاعلية.
وفي نفس سياق الحديث عن تجربة مصر، تندرج أيضا مداخلة د.حسام تمام (أستاذ باحث، القاهرة) المعنونة ب: مقاربة سوسيولوجية لتحولات الإخوان المسلمين ومواقفهم وممارساتهم السياسية.
وقد توخى الباحث من خلالها الكشف عن أن الحركة تعيش في السنوات الأخيرة تحولات سماتها:
1- الدخول في العمل السياسي والعمل العام.
2- صيرورة اللاوعي دون تنظير فكري مسبق.
3- وجود فجوة بين التنظير والممارسة.
من الناحية النظرية، لم يحدث أن توقفت الجماعة عن الحديث عن الخلافة الإسلامية، غير أنه في العشر سنوات الأخيرة تبين أن هناك غيابا لهذا المعطى في خطابها، وفي مقابل ذلك طغى فكر محلي عبرت عنه من خلال التركيز على دولة مصر عوض دولة إسلامية كبرى، كما أنه في الانتخابات الأخيرة لم يرفع هذا الشعار(الخلافة الإسلامية)، ومن جانب آخر، تم أيضا الحديث عن إمكانية قبول حزب مسيحي أو رئيس مسيحي منتخب، وهذه تصورات جريئة لا يستطيع حتى الحزب الحاكم طرحها وتعبر في مجملها عن تحول جوهري ملحوظ في المرجعية الفكرية للجماعة.
وفي نفس إطار هذا التحول، فالرؤية الإخوانية للعالم انتقلت من القطيعة إلى التعايش، فلم يعد هناك ترديد لمقولة مواجهة العالم، بل أضحى التركيز على التعايش أكثر منه على الصراع والصدام. وبذلك تلاشت من قاموس خطاباتها مفردات من قبيل: الحروب الصليبية، الشيوعية العالمية.. وأكدت في المقابل على مشروعية مجلس الأمن مثلا…
الجلسة الثالثة: تجارب: سوريا، لبنان، الأردن وفلسطين.
افتتحت هذه الجلسة التي ترأسها د. محمد خيري قيرباش أوغلو (جامعة أنقرة، تركيا) بورقة د.عدنان السيد(الجامعة اللبنانية) تناول من خلالها موضوع: الحركات الإسلامية والمشاركة السياسية في لبنان، حيث انطلق من ملاحظة أولية أشار فيها إلى أن لبنان يعرف تعددا طائفيا، الأمر الذي يتم التعبير عنه عادة بالديموقراطية التوافقية. ففي سنة 1943 تم تأسيس الجمهورية اللبنانية وتم توزيع الوظائف العامة للدولة بشكل طائفي على أساس من المساواة والعدل، وهذا أمر خطير بقي حاضرا حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية (1989). وقد فشل الإعلام بدوره في تثبيت فكرة المواطنة. فأين هي الحركات الإسلامية من كل هذه المعطيات؟
في سنوات الخمسينيات من القرن المنصرم كان نشاط الحركات الإسلامية التي اتخذت شكل جمعيات يقتصر على الثقافة والفن والرياضة، قبل أن يتعزز تواجدها ونفوذها في الحقل السياسي، وهناك ثلاثة أسباب رئيسية عززت هذا النفوذ في لبنان(كما في باقي الدول العربية الأخرى أيضا):
1- هزيمة سنة 1967؛
2- الحرب الأهلية اللبنانية(1975- 1989)؛
3- انتصار الثورة الإيرانية سنة 1979 (وهذا سبب أساسي).
وقد بدأت هذه الحركات في السنوات الأخيرة تشارك في المؤسستين: التشريعية والتنفيذية(الحكومية)، ونذكر هنا حركتان أساسيتان شاركتا في الحياة التشريعية (1992- 2000 و 2000- 2002 ): حزب الله الذي يحتضن في صفوفه مسلمين شيعة ويتبنى المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، والجماعة الإسلامية التي تكونت- في البداية- كجمعية رياضية في الستينيات وكانت لها علاقة مع تيار الإخوان المسلمين.
وإذا كان حزب الله الذي حظي بحلفاء في البرلمان مع نواب سنة ومسيحيين على حد سواء، هو أكثر انتشارا من الجماعة الإسلامية على المستوى الجغرافي، فإن هناك مجموعة من أوجه التشابه ونقط الالتقاء تجمع بين التنظيمين: فما بين سنة 1985 وسنة 1988 كانت هناك مقاومة مشتركة بينهما في الجنوب اللبناني، وناديا معا بإلغاء الطائفية السياسية(مع العلم أنهما معا يكرسانها من خلال التمييز بين السنة والشيعة)، وعبرا غير ما مرة في خطاباتهما عن رفض العلمانية، كما يشتركان أيضا في المطالبة بالعدالة الاجتماعية (مواجهة الفقر..مثلا)، ويتمركزان معا في المؤسسات الجامعية، ولهما تأثير كبير داخل مختلف النقابات المهنية ..
أما بخصوص أدائهما السياسي، ففي بداية ظهورهما جربا معا طرح فكرة الدولة الإسلامية، قبل أن يعدلا عنها، وتجاوزا فكرة الإسلام هو الحل إلى صياغة برنامج سياسي محدد المعالم.
وخلال السنوات القليلة الأخيرة، تبين أن ثمة معاناة وتضييقات يعيشها التنظيمان معا في سياق ما يعرف بالحملة الأمريكية لمكافحة الإرهاب “الدولي”، وبخاصة بعد أحداث 11 شتنبر واغتيال الحريري.
فبعد أحداث 11 شتنبر أضحى حزب الله في موقع الدفاع عن نفسه فكريا وثقافيا في مواجهة الاتهامات الموجهة إليه بصدد الانتماء للائحة الحركات الإرهابية بفعل علاقته مع المنظمات الفلسطينية ومقاومته للاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني، فيما عرفت الجماعة الإسلامية تراجعا، وانكفأت على نفسها في ظل هذه العوامل والمعطيات.
ويظل حزب الله هو الحزب الأول في لبنان على مستوى أداء الخدمات السياسية والاجتماعية على الرغم من عمره القصير مقارنة مع قوى لبنانية أخرى، كما أنه تمكن في السنوات الأخيرة من المشاركة في الحكومة كتجربة فريدة في لبنان حيث رفع تحديا لمكافحة الفساد.
وعلى العموم، يمكن القول أن هناك اقتراب من فهم الدولة عند الحركات الإسلامية اللبنانية، في حين نجد غيابا لمفهوم المواطنة كما هو الشأن في معظم البلدان العربية.
وعبر مداخلته المعنونة ب: تحولات الإخوان المسلمين في سوريا والمشاركة في الحراك الاجتماعي المعارض، حاول د.عمر كوش (باحث من سوريا) أن يرصد تجربة الحركات الإسلامية في سوريا، حيث أوضح في بداية هذه المداخلة أن النظام السوري حرص على طرد كل القوى الحية منذ بداية السبعينيات من القرن المنصرم، نتيجة لمقولة الحزب الواحد والفكر الواحد، بالشكل الذي انتفى معه العمل السياسي، وفي ضوء هذه الشروط، يظل السؤال المطروح هو: كيف يمكن للقوى الإسلامية وهي غير موجودة أصلا في سوريا منذ حوالي أربعين سنة أن تشارك في المؤسسات السياسية والدستورية في ظل نظام الحزب الواحد، وفي ظل حالة الطوارئ المفروضة منذ سنوات الستينيات من القرن الماضي؟
بدأت مشاركة الإسلاميين في الحكم بسوريا منذ سنوات الأربعينيات من القرن المنصرم، ففي سنة 1947 شارك هؤلاء في الانتخابات التشريعية، غير أنه مع مجيء الحزب الواحد ألغيت التعددية، فاعتبر حزب البعث بحسب الدستور السوري قائدا للدولة والمجتمع، مما أثر سلبا على مستوى دور المجتمع المدني وحرية الرأي وحقوق الإنسان…
نتيجة لهذه الظروف، وبعد مواجهة مع النظام السوري، انكفأ الإخوان المسلمون على أنفسهم وتشتتوا في مختلف العواصم الأوربية وبخاصة ببريطانيا وألمانيا، قبل أن يحاولوا بعد ذلك الانفتاح على السلطة؛ غير أنهم لم ينجحوا في كسب تجاوبها وعطفها.
ومع انهيار المعسكر الشرقي، انتعشت المعارضة السورية التي اعتقدت أن الأمور ستتغير باتجاه إصلاح الأوضاع بسوريا نحو الديموقراطية، غير أن الأمور ظلت على حالها.
وأمام هذه المتغيرات الدولية – انهيار المعسكر الشرقي-، حاول الإخوان المسلمون صياغة مجموعة من المطالب المرنة (التي اعتبرت ديموقراطية، لبيرالية، إسلامية..)، بحيث لم يشترطوا قيام الدولة الإسلامية، وأقروا بحق الاختلاف.. وفي الآونة الأخيرة التحق هؤلاء بمختلف فعاليات المعارضة السورية من أجل الضغط على النظام السوري في ظل تزايد المشاكل الداخلية وتنامي الضغوط الإصلاحية الخارجية.
وتظل المشاركة السياسية والممارسة هي الكفيلة بكشف صدقية أو عدم صدقية هذه التوجهات الجديدة التي عبر عنها الإسلاميون في هذا البلد العربي.
أما فيما يخص التجربة الأردنية فقد نبه د.خالد سليمان (الجامعة الأردنية) في مداخلته أن اغتيال زعيم القاعدة في العراق الأردني الأصل (أبو مصعب الزرقاوي) أثر بشكل ملحوظ في مسار مشاركة الإسلاميين في الحياة السياسية الأردنية(وبخاصة بعد حدوث اعتقالات وتضييقات واسعة في صفوف أعضاء إسلاميين في البرلمان، إثر زيارة قام بها البعض منهم لبيت عزاء الزرقاوي في الأردن..). الأمر الذي يعطي انطباعا لدى البعض بإمكانية استثمار النظام الأردني لهذه الأحداث من أجل الإطاحة بالحركة الإسلامية أوتحجيم أدوارها.
قامت حركة الإخوان المسلمين في الأردن كجمعية خيرية سنة 1946 وتبنت بعض مقولات وشعارات الحركة الأم في مصر، وشاركت في انتخابات 1956 و1963، وتأرجحت مواقف السلطات التنفيذية إزاءها بين القبول والموافقة تارة والرفض والتضييق في حالات كثيرة، مع العلم أن هذه الحركة نسجت في بدايات ظهورها الأولى علاقات طيبة مع القصر(على عهد عبد الله الأول) واستمرت على هذا التوافق، قبل أن تتدهور العلاقة سنة 1994 مع توقيع اتفاقية وادي عربة مع إسرائيل، حيث رفضت الحركة التطبيع مع إسرائيل واعترضت على الانسجام القائم بين مواقف النظام الأردني ومواقف الولايات المتحدة وإسرائيل إزاء مختلف القضايا الحيوية دوليا، عربيا وإسلاميا (نذكر على سبيل المثال، قضايا: العراق، فلسطين، أفغانستان، مكافحة الإرهاب..).
وفي بداية التسعينيات من القرن المنصرم شارك الإسلاميون في الحكومة الأردنية بحقائب وزارية غير مهمة لحوالي خمسة أشهر.. ومع ذلك تظل هناك مجموعة من المعوقات التي تحول دون تمكينهم من المشاركة بصفة فعالة في السلطة، فعلى الرغم من أن الحركة – وبناء على دراسات أجراها الباحث نفسه- تعتمد ديموقراطية داخلية مذهلة، وتتبنى خطابا متطورا ومرنا بصدد العديد من القضايا والأمور، إلا أن السلطة لا زالت تتعامل معها بنوع من الشك وعدم الثقة بفعل تزايد الضغوط الأمريكية عليها وبخاصة في ظل ما يسمى بالحملات المرتبطة بمكافحة الإرهاب والتطرف، فالحركة من وجهة نظر النظام الأردني لا زالت بحاجة إلى مزيد من التغيير والمرونة حتى تصبح مقبولة لديها.
وارتباطا بالتجربة الفلسطينية في علاقتها بحركة حماس وضمن مداخلة تلاها أحد الباحثين نيابة عن د.إبراهيم أبراش (جامعة الأزهر، غزة)، جاء فيها أن دخول حركة حماس إلى الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة أحدث تحولا عميقا في النظام السياسي الفلسطيني وطرح مجموعة من التحديات؛ إذ أن هناك مجموعة من التساؤلات التي تطرح بصدد قدرة هذه الحركة في الدفع بتغيير النظام السياسي الفلسطيني؛ وبخاصة في ظل التحديات التي أضحى يفرضها الداخل الفلسطيني والمحيط الخارجي.
إن كونية المبادئ الديموقراطية لا تمنع من وجود خصوصيات محلية يقرها الجميع، ومن هذا المنطق فالديموقراطية في فلسطين تطرح مسألة التوفيق بين شرعيات متناقضة: شرعية منظمة التحرير وشرعية حماس.
والحالة الفلسطينية هي حالة خاصة في الأقطار العربية وتتطلب الأخذ بعين الاعتبار كون فلسطين ليست دولة مستقلة بالمفهوم المتداول والمعروف(غياب سيادة)، مع وجودها تحت الاحتلال، وكون الشعب الفلسطيني يمر بحركة تحرر تؤجل معها الممارسة الديموقراطية باعتبارالمقاومة أولوية ملحة.
لقد ظهرت حركة حماس خارج منظمة فتح، ورفضت الاتفاقيات المبرمة ودعت إلى مقاومة الاحتلال. كما حاولت هذه الحركة التي تعتبر نفسها امتدادا للإخوان المسلمين، أن تتكيف مع مواقف الحركة الأم من جهة ومع الضغوط الدولية من جهة ثانية، قبل أن توافق على دخول الانتخابات التشريعية وتحمل مسؤولية تدبير الشأن العام الفلسطيني.
وإذا كان الفلسطينيون قد راهنوا على هذه الانتخابات باعتبارها مدخلا لترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، وتحقيق الوحدة والمصالحة الوطنيتين، فإن إسرائيل والولايات المتحدة كانتا تتوخيان منها إلهاء الفلسطينيين بالتنافس الانتخابي وضمان دخول حماس للحكم..
وتظل هناك مجموعة من التحديات والمعيقات التي تواجه مشاركة حماس في المؤسسات السياسية: فالاختلاف والتباعد في المواقف بين بينها بين حركة فتح لازال قائما، كما يظل السؤال مطروحا حول: كيف يمكن لهذه الحركة أن تدير الحكومة انطلاقا من مواقفها المرتبطة بالمقاومة وعدم الاعتراف بالكيان الإسرائيلي والضغوط الدولية المتزايدة عليها؟
الجلسة الرابعة: التجربة التركية
راكم إسلاميو تركيا حصيلة مهمة على مستوى المشاركة في المؤسسات السياسية، وتنطوي هذه التجارب على أهمية كبرى، وذلك بالنظر إلى اشتغال الحركات الإسلامية التركية في ظروف وشروط صعبة يفرضها النظام العلماني داخليا والمحيط الإقليمي(أوربا) الذي يتطير من كل حركة إسلامية. وضمن هذا السياق تركزت المداخلات التي حملتها الجلسة التي ترأسها د.عدنان السيد(الجامعة اللبنانية).
فمن جهته حاول د. محمد خيري قيرباش أوغلو (جامعة أنقرة، تركيا) تقييم حصيلة حزب العدالة والتنمية بتركيا، مذكرا في بداية مداخلته - التي حملت مجموعة من الانتقادات التي اعتبرها بناءة - من فكرتين أساسيتين، الأولى: أن الحركات الإسلامية التركية عموما هي ردة فعل على النظام القائم الذي حاول خلق شعب معاصر وتقدمي بناء على اعتبارات علمانية لا على أساس هوية إسلامية، والثانية: أن الهامش المتاح للأحزاب السياسية في مجال صناعة القرار السياسي داخل الدولة ضعيف جدا؛ وذلك بالمقارنة مع مؤسسات سياسية ودستورية أخرى.
لم يسبق للحركة التي حصلت على نسبة مهمة من مقاعد البرلمان في انتخابات سنة 1997 أن ادعت بأنها حزب سياسي ولم تطالب قط بقيام دولة إسلامية، كما أنها تبنت هوية إسلامية محافظة.
وعلى امتداد أكثر من ثلاثين (30) سنة على ظهور هذه الحركة، وعلى الرغم من انتقاداتها المتواصلة للنظام التركي، إلا أنها لم تستعمل أي شكل من أشكال العنف في مواجهته من أجل الوصول إلى السلطة، كما أنها لم ترفض النظام العلماني ولم تقترح دستورا جديدا..
ومن خلال رصد تطور مسارها التاريخي، يتبين أنها تعتمد على الخطاب والمظاهر أكثر منهما على العمل، فخطابها السياسي الداخلي يوحي برغبتها في إعادة بناء الدولة عل أساس الفكر الوطني، غير أن الواقع يبرز بأنها يوتوبية وغير علمية، كما لم تبد حماسا تجاه فعاليات المجتمع المدني (اعتمادها على السياسة الاقتصادية الحكومية وتهميشها في المقابل لفعاليات المجتمع المدني)، ولم تلتفت لأهمية وسائل الإعلام.. وعلى مستوى آخر، لم تتمكن الحركة من تحليل الأوضاع المجتمعية سياسيا ودستوريا، وكذا بالنسبة للقضايا الخارجية الحيوية، ولم تدرك أهمية إعادة النظر في مرجعياتها وتجديد فكرها، فهي ظلت في منأى عن الانفتاح على مختلف الدراسات التي تجسد الفكر الإسلامي المعاصر.
وعلى مستوى تدبير الشؤون الداخلية للحركة، يلاحظ غياب الشورى والممارسة الديموقراطية، أما نظرتها للمرأة فيغلب عليها طابع الاستعلاء، بحيث لا تتاح لها إمكانية تقلد منصب في الحزب أو الحكم.
وبخصوص الموقف من القضية الفلسطينية، فيبدو أن هناك نوعا من التناقض والاضطراب، فما تحمله شعاراتها بصدد دعم القضية الفلسطينية؛ يقابله في نفس الوقت تأييد للسياسة الأمريكية بخصوص مشروع الشرق الأوسط الكبير.. والإقبال على نسج علاقات في مختلف المجالات والميادين مع الكيان الإسرائيلي.
ونظرا لوجود حالات من التوتر في علاقتها مع السلطة التي مارست ضغوطا كبرى في مواجهتها، فإن الحركة لا تزال في موضع الشك والارتياب من حيث ولائها للنظام والمؤسسات.
لقد كانت تجربة الحركة بزعامة أربكان ناجحة على المستوى الاقتصادي وفي مجال محاربة الرشوة مقارنة مع فترة أردوغان. ومع تجربة حزب السعادة تبين أن هناك مجموعة من الانحرافات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والديني، بالشكل الذي أسهم في تراجع الحركة، وفي المقابل حققت هذه الأخيرة نجاحا كبيرا على مستوى تسيير الجماعات المحلية.
أما د.محمد العادل (مركز الدراسات الاستراتيجية، أنقرة – تركيا) وفي سياق رصده للتجربة التركية ضمن تصور آخر، لاحظ أن هناك خصوصية تميز الحركة الإسلامية في تركيا، فواقع هذه الأخيرة لم يأت صدفة، بل هو نتاج تضحيات أجداد هذه الحركة منذ 1920، فقد كانت هناك حركات منذ فترات تاريخية مبكرة ولكن تمت إبادتها وقتل شيوخها في بداية الثورة الكمالية. مع العلم أن هذه الحركات كانت مستقلة، ولم تتأثر بالتيارات الإخوانية الخارجية، فهي بذلك تيارات تركية أصيلة، ونذكر من بينها: الحركة النقشبندية التي هي حركة عريقة ثم الحركة النورسية(نسبة لسعيد النورسي)…
أما فيما يخص علاقة هذه الحركات بالنظام العلماني، فلم يكن للثورة الكمالية عداء نحو التدين بقدر ما كان عداؤها ينصب على ربط الدين بالسياسة، وأكثر من ذلك، فقد كان لهذا النظام الفضل الكبير في تهييء الأجواء الديموقراطية التي تسمح لهذه الحركات بالعمل شريطة عدم تهديد بنيان نظام الدولة. وفي المقابل، لم تدع هذه الحركات إلى تطبيق الشريعة الإسلامية واكتفت بالدعوة إلى أسلمة المجتمع.
أما مشاركة هذه الحركات في المؤسسات السياسية فلم تتخذ الطابع المباشر دائما، بل كانت هناك أحزاب تتفاوض مع الطرق والحركات لدعمها، الأمر الذي سمح بوجود أفراد من هذه الحركات منذ سنوات الخمسينيات من القرن المنصرم بالبرلمان، هذا بالإضافة إلى ترشيح أعضاء بصفة مستقلة.
إن هذه مجمل هذه الخصوصيات تنطوي على أهمية كبرى، لأنها تساعد على فهم تركيبة الإسلاميين في تركيا.
وهناك مراحل تاريخية تجسد تطور الحركات الإسلامية في تركيا ينبغي استحضارها: فمرحلة حكم أتارتورك 1920- 1938 ومرحلة 1938 – 1950 عرفتا بروز مجموعة من الأحزاب، كما تميزتا أيضا بمواجهة بين الحركات الإسلامية والتيارات القومية وغلب فيهما طابع الحزب الواحد على المشهد السياسي. وعرفت الفترة الممتدة ما بين سنتي 1950 و1960 العودة بالآذان إلى اللغة العربية وإعادة الاعتبار للتعليم الديني، وخلال مرحلة 1965- 1980 ظهر حزب النظام الوطني (نجم الدين أربكان) وهو خليط من الإسلاميين المتأثرين بحركة الإخوان وجماعة النور وجماعة النقشبندية، كنتاج لبروز ثقافة التحالفات في ممارسة هذه الحركات. أما مرحلة 1983-1993 التي عرفت بفترة توركت أوزال الذهبية، فقد شهدت تأسيس حزب الوطن الأم الذي حصل على أغلبية مقاعد البرلمان وأسهم بشكل كبير في إعادة الاعتبار إلى التعليم الديني. وخلال هذه الفترة تنبهت الحركة لأهمية الاقتصاد وتحولت إلى قوة اقتصادية، حيث ظهرت شركات مهمة تابعة للإسلاميين، مما منح الإسلاميين طابع الاستقرار.
لقد استفاد حزب العدالة والتنمية (الذي لا يصنف في تركيا كحزب إسلامي) من المراحل التي مرت بها الحركة الإسلامية تاريخيا ومن أخطاء حكومة حزب الرفاه ومن الأجواء الديموقراطية المتاحة في تركيا، مما سمح له بالنمو والتطور.
وتحت عنوان: الإسلام والحداثة السياسية في التجربة التركية من خلال تجربة حزب العدالة والتنمية، قدم د.عبد الله تركماني (الجامعة التونسية) مداخلة قيمة؛ اعتبر فيها أن الحزب(العدالة والتنمية) يشكل نموذجا يستحق التأمل في العالم العربي، وبخاصة من قبل تلك الأحزاب التي تبحث عن المزاوجة بين الإسلام والحداثة.
فهذا النموذج يقدم مثالا حيا حول إمكانية الجمع بين الإسلام والحداثة، ويرد على كل من يرفض أو ينكر هذه الإمكانية وبقدرتها على تدبير الشؤون الداخلية أو الخارجية.
إن نقطة الضعف في تجربة هذا الحزب كانت هي المؤسسة العسكرية، فكيف نفسر صعود نجم هذا الحزب رغم الإكراهات التي كانت تفرضها هذه المؤسسة؟
إن أسباب هذا الصعود متعددة وتتنوع بين عوامل مباشرة وأخرى غير مباشرة:
فقد وصل الشعب التركي إلى مرحلة كشف فيها “ضلال” النخبة العلمانية، وتزامن صعود حزب العدالة والتنمية مع تنامي توحش العولمة وانخراط الشعب التركي في البحث عن ثقافته وهويته التي يشكل الإسلام جزءا مهما منها، وبخاصة وأن العلمنة التركية ومنذ سنة 1923 لم تأت في سياق جدل داخلي ولكنها عبارة عن “قشرة” ألصقت بالمجتمع التركي بعدما مورس العنف لفرضها.
ومن جانبه استطاع حزب العدالة والتنمية أن يوظف مختلف التحولات السياسية والاجتماعية في تصوراته وبرامجه، فهناك انتقاد ذاتي داخل الحركة، ونزوح عن الكارزمية والزعامات، والإيمان بالعمل الجماعي، مع الاهتمام بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والابتعاد عن المماحكات(كتلك المرتبطة بمشكل الحجاب..) والتأكيد على عدم تهديد النظام العلماني والقبول بإمكانية الانضمام للاتحاد الأوربي.
وداخل هذه التحولات عبر الحزب (العدالة والتنمية) الذي لا يدعو إلى تبني دستور إسلامي؛ على أن هويته علمانية مؤمنة، تتمحور بالأساس حول احترام حرية كل شخص.
إن أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه التجربة في الفضاء التركي تتلخص في كون النظام الديموقراطي السلمي هو القادر وحده على إحداث التغيير، فيما يظل الاعتقاد بامتلاك الحقيقة أمرا سلبيا وعائقا ضد كل حراك ديموقراطي.
ولعل هذه التجربة الناجحة تقدم للعرب درسا قوامه: ضرورة توفير فضاء ديموقراطي كفيل بخلق مناخ سياسي يتيح تنافسا سلميا بين مختلف الفاعلين بتوجهاتهم المتباينة.
الجلسة الختامية: خلاصات وتوصيات
توجت الندوة بتقرير ختامي قدمه د.امحمد مالكي (مدير مركز الدراسات الدستورية والسياسية، مراكش) تضمن مجموعة من الخلاصات والتوصيات التي تمحضت عنها أشغال هذه الندوة.
لقد مكنت هذه الأخيرة من الاطلاع على العديد من التجارب المرتبطة بمشاركة القوى والحركات الإسلامية في المؤسسات الدستورية بمختلف الأقطار العربية وتركيا والكلفة السياسية لذلك..، كما أتاحت إمكانية طرح أسئلة عميقة ترتبط بعلاقة الدين بالسياسة، والانتقال من الخطاب الدعوي إلى الممارسة السياسية، ومدى حقيقة التخوف من مشاركة الحركات الإسلامية في الحياة والمؤسسات السياسيتين، وعلاقة هذه الحركات مع القوى والأحزاب السياسية الأخرى، بالإضافة إلى حقيقة الازدواجية في خطاب الحركات الإسلامية (أي الظاهر منها والخفي)، والتكتيك والاستراتيجية في خطاباتها وممارساتها، وإشكالية الوضوح النظري والفكري لديها من قضايا مهمة: الديموقراطية، المواطنة، المشاركة، المحيط الدولي، الاقتصاد.. مع الوقوف على التجربة التركية وما يحيط بها من إشكالات.
وعلى مستوى التوصيات التي خلصت إليها الندوة، فقد تركزت في ضرورة تبيئة هذه الحركات وتهيئتها للدخول في غمار تجربة ديموقراطية كباقي الفاعلين، مع الإشارة إلى ضرورة تخلي بعضها عن أسلوب التكفير والإلغاء والإقصاء في مواجهة مخالفيها في الرأي، واعتماد تجديد الفكر الإسلامي، وبخاصة وأن الفقه الإسلامي هو جد ضعيف مقارنة مع حجم المشاركة السياسية، وكذا الانفتاح على كتابات بعض الإصلاحيين التاريخيين.
وعموما، يمكن القول أنه وعلى الرغم من وجود نوع من الإيمان والإقرار بالأسس الديموقراطية من قبل بعض القوى الإسلامية، يظل استيعاب تحديات المحيط الدولي وبلورة تصور واضح ومحدد حول الإسلام، أحد أكبر المشاكل التي تواجه هذه الحركات.
::. د.إدريس لكريني (أستاذ باحث، كلية الحقوق، مراكش)مراكش: 16 و 17 يونيو/ حزيران 2006