18 mai 2006

الهجرة العلمية وإستنزاف الكفاءات




محمـــد ريـــاض

توجيه الحــدث

تعتبر ظاهرة الهجرة أحد أهم العوامل المؤثرة على تطور الاقتصاد الوطني وعلى التركيب الهيكلي للسكان والقوى البشرية، وتكتسب هذه الظاهرة أهمية متزايدة في وقتنا الحاضر نظراً لتزايد عدد المهاجرين وخاصة من الكوادر العلمية المتخصصة، وأثر ذلك على خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالنسبة للدول الإسلامية والنامية وحرمان هذه الدول من الاستفادة من خبراتهم ومؤهلاتهم بالإضافة إلى النتائج المترتبة على الهجرة الداخلية والمتمثلة بالنزوح من الريف إلى المدينة وما يترتب عليها من نتائج متعددة الجوانب، بعضها إيجابي وبعضها الآخر سلبي وهذا ما نراه في الدول الإسلامية والنامية التي تتصف حركة القوة العاملة بها بالعشوائية والبعد عن التخطيط. والهجرة هنا تعني الانتقال من أجل العمل إلى بلدان متقدمة صناعية سواء للإقامة المؤقتة أو الدائمة..
وتكاد الدراسات تجمع على تحديد فئة المهاجرين - ما عدا الهجرة السياسية - فيما يلي:
1 - ذوي المهن الحرة كالأطباء والمهندسين والاقتصاديين والمحامين وغيرهم.
2 - الفنيون الذين يشكلون حلقة الاتصال بين المهندسين والعمال المهرة.
3 - العمال المشابهون للفنيين الذي هم العمال المهرة المكتسبون خبرة متخصصة في مجالات حيوية في الصناعة.
والفكرة السائدة عن هجرة الكفاءات، هي أن هذه الهجرة تمثل عقبة في طريق تنمية البلدان الإسلامية والنامية ومن هنا فلدى معالجة هذه المشكلة التي يمكن أن نصفها مبدئياً بالخطيرة. فإن دراسة الظواهر والعوامل التي تساهم في هجرة هذه الكفاءات إنما تمثل نقطة بداية سليمة في وضع برامج فعالة للقوى كما تنطوي على عملية دقيقة في بناء المؤسسات العاملة في مجالي البحث والتعليم العالي وإذا كانت هجرة هذه الكفاءات تنتقص من أهمية قضايا أساسية أخرى من قبيل الاستقلال والتبعية والتخلف فإن التركيز على هذه المتغيرات المحورية إنما يبرز هجرة الكفاءات بوصفها ظاهرة فرعية ملازمة لهياكل أخرى قائمة على التبعية والجمود.
إن إحصاءات هجرة الكفاءات من الدول الإسلامية والنامية بصفة خاصة، يشوبها قصور واضح ويبدو أن هذا القصور متعمد من جانب الدول المتقدمة المستقبلة للكفاءات، حيث تتجاهل هذه الدول نشر البيانات الواضحة عن حركة هجرة الكفاءات، على الرغم من وجود نظم إحصائية بالغة الدقة لدى هذه الدول في هذا المجال(1)

أسبــــــاب الهــجـــــــرة
في إطار المناقشة العامة لهجرة الكفاءات أرى ضرورة تناول الموضوع سواء لتفهم أسباب الهجرة أم لاقتراح الحلول في إطار واسع يتجاوز العوامل الشخصية، ذلك أن قرار الهجرة لا يتخذ على المستوى الشخصي كاختيار حر ينسجم مع حق الإنسان في الهجرة، أو العمل حيثما شاء، لكن هجرة الكفاءات تمثل إحدى افرازات البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية. وتتشابك العوامل لتجتمع في سعي ملح للهجرة، وهي بذلك مؤشر لفشل خطط تنمية الإنسان اقتصادياً واجتماعياً وعلامة استسلام أمام عوامل تهميش الإنسان صانع التنمية وهدفها.
فالتجربة التي يعيشها المثقف في الدول الإسلامية أو في البلدان النامية تشتمل على عنصر الغربة والضياع في شتى المجالات، تلك الغربة التي يعيشها في كلتا الحالتين سواء استمر في وطنه إذ يكون حاملاً لمعرفة لا تكتمل بها شخصيته نتيجة لمميزات مجتمعه أو هاجر، وهنا يستوعب من طرف المجتمع المهيمن الذي يحتوي على ذاتيته مما يؤدي إلى الغبن الثقافي.
إذاً الاغتراب هنا هو حالة هيكلية متولدة من خصائص المجتمع الإسلامي والنامي في علاقته مع الإمبريالية الثقافية(2). والحالة هذه تولد في الواقع ثلاثة أنواع من ردود الفعل للمثقف إذا لم يكن مهاجراً:
- فهنالك حالة العجز وانتفاء القدرة على العمل والتغيير والانكباب في الاستهلاك وتلك أشد حالات الاغتراب.
- تبني الأيديولوجية القومية على أساس أنها تعبر عن إرادة السيطرة على التكنولوجيا في سبيل الحفاظ على الذاتية والكرامة القومية.
- غلو السلفية والتنكر للتقدم بما فيه من أنماط تكنولوجية وثقافية، وهي أيضاً تشكل نوعاً من الاغتراب لأنها تنكر للتاريخ ولحقيقة وواقع دين الإسلام كونه دين علم وإيمان وهكذا تختلق ثنائية ثقافية مبنية على ثنائية اقتصادية تعكس الهيمنة المولدة للاغتراب الثقافي وهذه بدورها منعكسة من طبيعة المجتمع.
ولاشك في أن الكشف عن الأبعاد المختلفة لظاهرة هجرة الكفاءات من البلدان الإسلامية والنامية لأمر على جانب من الأهمية لأكثر من سبب. إذ يتخرج بضعة ملايين من مواطني الدول الإسلامية والنامية من الجامعات ومن ثم فإن المشكلات التي نواجهها حالياً في استيعاب الكفاءات العالية وتوزيعها واستخدامها، مشكلات محورية بالنسبة لرسم سياسات أكثر فعالية للقوى البشرية والتعليم. وسوف تستمر البلدان التي تفتقر في الوقت الحالي للكفاءات العالية في استخدام هذه الكفاءات من البلدان التي لديها فائض منها.

آراء حـــــــول الــهجـــــــــرة:
قد لا يوافقنا البعض على إدراج قضية الهجرة كأحد عوامل تخلف التنمية في الدول الإسلامية والعالم النامي ولرب قائل: إن الهجرة بين البلدان المذكورة وخارجها وخصوصاً إلى الأمريكيتين، جنوباً وشمالاً قديمه ومنذ أكثر من قرن، فما علاقة ذلك بالتخلف؟ إننا لا ننكر أن تاريخ الهجرة سواء البينية الإسلامية، أو الخارجية، هو تاريخ مديد نسبياً، ولابد أن ننوّه بأن الأسباب الأساسية للهجرة أيا كانت، هي في الأساس أسباب اقتصادية، ومن ثم هي أسباب سياسية.
أما الاقتصادية فقد تمثلت بضيق أسباب العيش وزيادة التراكم الضريبي على الإنسان في تلك البلدان خصوصاً زمن الهيمنة العثمانية. أما الأسباب السياسية، فإننا أيضاً وفي ظل الهيمنة العثمانية نلاحظ أنه كلما اقتربنا من مركز السلطة العثمانية وازدادت سيطرتها، كلما ازدادت نسبة المهاجرين بسبب الضغط السياسي إضافة للضغط الاقتصادي المفروض على الإنسان في هذه البلدان. وهذه المعادلة مازالت تتحكم بالهجرة.
ولكن بعد أن انتقلت إلى الحيز القطري - إضافة إلى عوامل أخرى سنأتي على ذكرها في سياق البحث - كان المواطن على اختلاف انتمائه العقيدي يهاجر رغبة في تحسين ظروف عيشه، وتخلصا من الواقع الاستبدادي الذي تفرضه عليه الدولة. وإذا كانت الهجرة، إبان الهيمنة العثمانية، تتم باتجاه مصر ودول الأمريكيتين - الولايات المتحدة - البرازيل - الارجنتين.... فإن الهجرة الحديثة قد طرأ عليها بعض التحول. فقد أخذ المواطنون يتجهون صوب أوروبا وأمريكا ودول النفط، وتختلف الهجرة إلى الغرب عن الهجرة إلى بلدان النفط في الخليج اختلافاً من حيث الكثافة والنوع. وقد سبب انخفاض مستوى الدخل وقلة فرص العمل الهجرة الكثيفة إلى بلدان نفط الخليج من البلدان المصدرة للعمالة - مصر - سورية - الأردن - اليمن - السودان - لبنان - وهذه الأخيرة تشترك ببعض الخصائص مع بلدان شمال أفريقيا العربية - تونس - المغرب - موريتانيا والجزائر - بتوجيه الرغبة بالهجرة إلى أوروبا أكثر من البلدان النفطية نسبياً، وان كان لها مهاجرون باتجاه هذه الأخيرة، إلا أنها لا تماثل الهجرة إلى أوروبا كمّاً. إن هذه الهجرة بنوعيها وبعد الفورة النفطية كانت تتمثل في البلدان المصدرة للنفط في الخليج - والتي امتدت لتشمل سائر الأقطار الإسلامية الأخرى بسرعة ملحوظة - في التوسع الكبير في الاستهلاك الترفي والمظهري وفي اقتناء السلع الاستهلاكية المعمرة في سرعة معدلات استهلاك هذه السلع التي هي في أغلب الأحوال مستوردة(3).
هذه النزعة الاستهلاكية التي يتحدث عنها الجهيمي، والمنتشرة في مجتمعات النفط. فيها من أشكال الهدر غير الواعي لطاقات مالية كبيرة جداً، يمكن ان توظف في التنمية في هذه البلدان، ولكن عدوى التقليد وظاهرته وانعدام الوعي الاقتصادي والسياسي يحولان دون توظيف هذه الأموال في مكانها الصحيح وفي اتجاهها المطلوب، كذلك الحال بالنسبة للعمالة في هذه البلدان، حيث راحت تنقل عدوى الاستهلاك والتقليد؛ فهذه البلدان أخذت تقلد المقلد النفطي الباذخ، فالعمالة المهاجرة تقلد دون أن تعي حقيقة الفعل الممارس. لأن وعيها مشوه أصلاً، ونحن واجدون في الهجرة أصنافاً عديدة هي كما يصنفها عفيف ظاهر إلى ثلاثة مستويات:
1 - الهجرة المؤقتة التي تضم المتكسبين والمرافقين.
2 - الهجرة الاحلالية.
3 - الهجرة غير القانونية - أو المتسللة(4).
الهجرة المصنفة أعلاه، ولدت آثاراً سلبية كما أشرنا سابقاً، وهذه الآثار كانت على الصعيدين الفردي والاجتماعي، وذلك نظراً لانعدام التخطيط المبرمج والمتبادل بين هذه البلدان، سواء المستقبلة للعمالة أو تلك المصدرة لها. وقد أحدثت هذه الهجرة خللاً وظيفياً كبيراً في مجتمعات البلدان المصدرة للعمالة. خصوصاً ذلك الفراغ الكبير في العمالة الداخلية - زراعة - صناعة - وخدمات، وأثر سلباً على كافة القطاعات الاقتصادية، وخصوصاً الزراعي، لأن اقتصاد البلدان المصدرة للعمالة اقتصاد زراعي السمات، ولأن نسبة كبيرة من العمالة المهاجرة من هذه البلدان، إلى سوق عمل البلدان النفطية وكذلك إلى أوروبا كانت وما تزال تترك عملها الزراعي إضافة إلى تحول قسم كبير من العمال الزراعيين (إلى قطاع البناء كبديل عن الطلب على عمال التشييد من قبل الأقطار النفطية(5) مما شكل تضخماً لا مثيل له في قطاع الخدمات عموماً، وضموراً لا مثيل له أيضاً في قطاع الزراعة. فانخفضت مستويات الإنتاج وتثاقلت سرعة وتيرة التنمية، وحدث شبه فراغ في الريف في هذه البلدان من العمال الزراعيين، الذين يعتبرون الرصيد الأول لإنتاج الدخل الوطني حتى إن بعض هذه البلدان قد ظهرت فيها الهجرة الاحلالية للعمالة بشكل بارز؛ فقد عملت على استقدام العمالة الآسيوية محل مهاجريها إلى الأقطار النفطية. والهجرة الموسومة أعلاه تساهم بشكل غير مباشر في تأصيل التخلف في هذه البلدان.
وإذا كان البعض يرى أن هذه الهجرة قد عملت على رفع مستوى الدخل الوطني للبلدان المصدرة للعمالة، من خلال تحويلات العاملين المالية. فإن ذلك أدعاء قاصر النظر لأن هذه الهجرة قد أدت بنسب متفاوتة إلى تحطيم بنى الإنتاج الأساسية وبلغت الأزمة أوجها مع انخماد الفورة النفطية، وبعد قيام الأقطار النفطية بالاستغناء عن خدمات جزء كبير من العمالة، ليتشكل بذلك عبء كبير على بلدان العمالة الأصلية، وتتأصل لديها مشكلة متأزمة تمثلت بجيوش العاطلين عن العمل. وكل ذلك سبب نوعاً من وجود عداء ضمني أو صريح (فردي أو وطني) تجاه البلدان النفطية. هذا العداء النفسي المظهر، القائم على أساس اقتصادي قد نشأ إثر قيام البلدان النفطية باستقدام العمالة الآسيوية الرخيصة، وإحلالها محل العمالة في هذه البلدان المرتُفعة الثمن. هذا التصرف أدى إلى ردود أفعال مختلفة، ذاتية ونفسية، وشعور عام لدى المستغنى عن عملهم بالغبن لحقهم، إضافة لشعور العداء الذي أشرنا إليه سابقاً تجاه من كانوا سبباً في رحيلهم، سواء من أبناء الدول النفطية، أو اتجاه المهاجرين الجدد من الآسيويين.. وما يجدر الإشارة إليه، أن حجم الهجرة البينية في هذه البلدان قد أخذ بالتناقص منذ بدء الثمانينات، مع ازدياد ملحوظ في حجم العمالة - الآسيوية (هندية - كورية - فليبينية - باكستانية... إلخ) بحجة قبول هذه العمالة بثمن أقل وظروف معيشة غير مكلفة. وهذا ما لا تقبل به هذه البلدان (البلدان الإسلامية والنامية)، علماً أن حجم العمالة في البلدان النفطية قد حافظ على حجمه بالرغم من التخلي عن العمالة في هذه البلدان.
هذا الاستثناء زاد من معدلات التضخم في البلدان غير النفطية مما حال دون تنفيذ خطط التنمية مع ما رافق ذلك من مشاكل اقتصادية واجتماعية ونفسية، تراكمت مع السابق من نوعها. وعادت دائرة التخلف تتحكم من جديد في آليات هذه البلدان، الاقتصادية والاجتماعية، وعليه فإن الآثار السلبية المترتبة على الهجرة، إذا لم يتم تجاوزها بقيام الأقطار العربية بوضع خطط تنموية متكاملة أو متناسقة للاستفادة من طاقات العمالة وتوظيفها في هذه البلدان فإن حلقة التخلف ستبقى محكمة الإغلاق.
أما الهجرة الثانية - إلى أوروبا - فهي أخطر من الهجرة البينية بأشواط. ذاك ان الهجرة البينية تتسم بالموسمية والمرحلية في حين أن الهجرة إلى أوروبا تتسم بالاستقطابية والديمومة. فالدول الغربية غالباً ما تعمل على المحافظة على المتفوقين العرب لديها عبر تقديم مختلف المغريات لهم. وحيث أن الهجرة العلمية للدراسة والبحث لا تتم إلى أقطار النفط وإنما إلى أوروبا، فإننا نلاحظ ان الهجرة الخارجية تختلف عن الداخلية في داخل البلدان الإسلامية والنامية - بأنها هجرة لها أشكالها الاجتماعية والاقتصادية، وأنواعها هي:
1 - الهجرة العلمية للدراسة والبحث العلمي وهجرة الأدمغة الإسلامية.
2 - الهجرة بحثاً عن العمل لتلبية أسباب المعيشة.
3 - هجرة المال.
إن الهجرة من النوع الأول والهجرة من النوع الأخير إذا كانتا تساهمان في استمرار تقدم المتقدم (أوروبا وأمريكا) فإنهما بالوقت ذاته تحافظان على تخلف المتخلف (البلاد النامية) فالمال من هذه البلدان الفّار من أرضه ووطنه الصادر منه، إلى أوروبا نتيجة ظروف استثمار غير متوفرة إسلامياً، يؤدي إلى زيادة التراكم الرأسمالي العالمي التمركز وقوة دورته الاقتصادية وسطوته، في حين يؤدي إلى زيادة التخلف والافقار والتهميش الاقتصادي في البلدان النامية. فإذا كانت مقولة (إن المال لا وطن له) صحيحة فإن مقولة (إن صاحب المال له وطن) صحيحة أيضاً. ولذلك فإن المجتمعات والدول المتقدمة جداً تغذي وتعمل على ترسيخ المقولة الأولى، كما تعمل على طمس المقولة الثانية. ففي الأولى فائدتها وفي الثانية ضرر لها.
ولذا علينا توضيح المسألة لجعل الأولى مرتبطة بالثانية وتابعة لها، حتى نستطيع أن نستفيد منها إسلامياً وهذا ما سنبينه لاحقاً. أما هجرة الكفاءات والمهارات والأدمغة، فإن أوروبا وأمريكا، ما برحت تعمل على استقطابها بشتى السبل. فهي كما تحاول إغراء المال الإسلامي؛ بشروط استثمار مشجعة وشعوراً بالثقة لصاحب المال بالمحافظة على ماله ونماء هذا المال، كذلك تغري الكفاءات العلمية بتوفير أسباب الرفاهية وأساليب البحث العلمي، والعوائد المالية الكبيرة وكل ذلك مما يشجع الكفاءات في هذه البلدان على الهجرة. ويساهم ويزيد الفجوة بعداً بين البلدان المتقدمة والبلدان الإسلامية والنامية، ثقافياً ومعرفياً واقتصادياً. مع الإشارة إلى أن هذه البلدان عادة ما تستقدم العلماء والخبراء من أوروبا وغيرها تحت شروط مادية باهضة التكاليف، فهو يفقد أبناءه باستمرار ويستقدم باستمرار البديل عنهم. وتقدر (هجرة الكفاءات من هذه البلدان إلى البلدان المتقدمة بـ 4000 سنوياً. وهذه الهجرة العلمية والفنية أدت إلى عرقلة مشاريع التنمية وحرمت التنمية من عناصرها الأساسية، كما أن الهجرة ألحقت بهذه البلدان خسائر جسيمة من ناحية المبالغ والكلفة التي قدمت إلى هذه الكفاءات أثناء الدراسة وخسارة إنتاج هذه القوى البشرية العالية التأهيل والكفاءة، وأخيراً، فإن هجرة الأدمغة والكفاءات أدت إلى خلل في بنية هذه الدول وكرست تبعية هذه البلدان للدول الرأسمالية(6) ونحن كثيراً ما سمعنا عن علماء وخبراء إسلاميين ومن الدول النامية قدموا إلى العديد من المؤسسات في تلك البلدان كموفدين للدول الغربية وشركاتهم وممثلين لها إلى هذا البلد الإسلامي والنامي أو ذاك. بعد أن تمكن الغرب من استقطابهم لديه، وبعد أن قدم لهم المغريات المادية ورسم لنفسه لديهم صورة آسرة ومغرية بواسطة وسائل التأثير في الرأي، وفي هذه الحالة لا يعود الإعلام سوى شكل من أشكال السيطرة(7).
السيطرة التي يتحدث عنها ألبرتيني تتحكم بقوة بدينامية التخلف والتبعية في البلدان المتخلفة بمنع أبنائهم من تنمية بلادهم بعد العودة إليها. إنما عملت الدول المتقدمة على قطع انتمائهم بالبلد الأصل ودمجهم كلياً في المجتمعات التي هاجروا إليها.
وتبقى مسألة هجرة العمالة من هذه البلدان إلى أوروبا وأمريكا. فإن جميع هذه البلدان تشترك من خلال أبنائها بهذه الهجرة بنسب متفاوتة وتبلغ قمتها وحدها الأقصى في بلدان المغرب العربي، فعمال هذه البلدان مثلهم كمثل المهاجرين إلى البلدان النفطية تحدوهم رغبة بتحسين ظروفهم الاقتصادية والمعيشية من خلال العمل في البلدان الأوروبية وأولها فرنسا، وتشير البيانات التي وضعها الاختصاصيون إلى ضخامة الهجرة المغربية إلى أوروبا(8) وتكاد تتشابه ظروف العمل والأعمال التي يقوم بها العمال في بلدان أوروبا وبلدان النفط في الخليج، من أعمال مهنية يدوية وميكانيكية قاسية وخطيرة لا يقبل القيام بها عمال البلاد المستقبلة للعمالة. ومع ذلك تمارس هذه الأخيرة مختلف الضغوط على العمالات الإسلامية والنامية الوافدة والمقهورة. فمثلاً تلعب ورقة الإقامة قمة الضغوط سواء في الأقطار النفطية أو في أوروبا. وزيادة على ذلك يتعرض العمال في هذه البلدان لضغوط إضافية نتيجة الاختلاف في الانتماء القومي والديني ولا يتيح وخاصة للعامل الإسلامي إمكانية الاستفادة من مختلف النشاطات الفكرية والثقافية في هذه المجتمعات، ونادراً جداً ما تخصص أنشطة ثقافية أو ترفيهية للعمال في هذه البلدان للمهاجرين(9) فالثقافة التي يريدها العامل الإسلامي هي الثقافة الإسلامية السمحاء في بلد الاغتراب كتعويض عن منطق التمييز في المعاملة والأجور، الذي يحدث لديه شعوراً متفاقماً بالغربة والدونية تجاه الغير الأوروبي، لأنه ليس في مستوى المجتمع الذي يعمل في محيطه. إنه يحس ويشعر بأنه مستلب تماماً، وأنه ليس غير أداة وكمية مبتذلة ولاحقة لمحيط لا تربطه به أدنى صلة.

الـــدراســات الخـــاصة بالهجرة
تؤكد الدراسات الخاصة بهجرة الكفاءات العلاقة الوثيقة بين التعليم والتدريب في الدول المتقدمة وهجرة الكفاءات. فالدارسون في الخارج هم أكثر المرشحين للهجرة سواء بعد إتمام دراستهم أو تدريبهم مباشرة أو بعد عودتهم بمدة وجيزة.
وتشير بعض الإحصاءات أن نسبة 60 % من الدارسين في البلدان الغربية يهاجرون كما أن نسبة 15 % من الدارسين في الدول الاشتراكية السابقة أو الدول الإسلامية والنامية يهاجرون. ووفقاً لحسابات أجراها أحد الباحثين الإسلاميين وطرحها في ندوة (إكوا) اللجنة الاقتصادية لدول غربي آسيا التابعة للأمم المتحدة، فقد بلغت النسبة المئوية لهجرة الأطباء والمهندسين والعلماء من هذه البلدان إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية حتى سنة 2000 ما يلي:
50 % من الأطباء والبالغ عددهم 48000 طبيب و25 % من المهندسين والبالغ عددهم 34000 مهندس و15 % من العلماء العرب المشتغلين بالعلوم الطبيعية والبالغ عددهم 10500 عالم.
إن المصدر الرئيس للعلماء والمهندسين المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية من هذه الدول هو مصر حيث هاجر منها 50 % من المجموع وهناك مصادر رئيسية أخرى هي العراق ولبنان ويقدم كل منها نسبة 15 % إلى 20 % وسورية والأردن وتقدمان أكثر من 5 % من المجموع وفلسطين التي أسهمت بـ 4 % من المجموع وباكستان 5 % وإيران 7 % …
وقد تجاوز متوسط عدد العلماء الذين دخلوا الولايات المتحدة كمهاجرين 960 شخصاً في سنة 1990 أي بزيادة تبلغ حوالي عشرة أمثال فترة الستينات وقد انخفض هذا العدد خلال فترة الانتعاش النفطي وعاد ليرتفع بعد ذلك وظهرت هذه الاتجاهات في الدول الإسلامية وخاصة العربية منها التي تعتبر مصدرة رئيسية للعلماء والمهندسين المهاجرين.
تعكس الزيادة البطيئة، لكن المستمرة، في هجرة العلماء والمهندسين العرب زيادات مشابهة في عدد العلماء والمهندسين الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة من جميع البلدان الإسلامية والنامية. وهناك عدد غير معروف من العلماء والمهندسين الموجودين حالياً في الولايات المتحدة الأمريكية بصفة غير مهاجرين أو انهم يعتزمون البقاء فيها بصورة دائمة دون تغيير وضعهم كغير مهاجرين، فيصبحون غرباء غير شرعيين، والجدير بالذكر ان عدد المهاجرين من هذه البلدان من الكفاءات العالية والمقيمين حالياً في الولايات المتحدة الأمريكية فقط يقدر بحوالي 180000 (مائة وثمانون ألف شخص) ومع أن ظاهرة هجرة الكفاءات تختلف في نوعيتها إلى حد كبير من حيث هجرة الفئات الماهرة وغير الماهرة من العمال، فإنها تظل مرتبطة بهذه الأخيرة ارتباطاً وثيقاً فالسياسات الشاملة التي تؤثر على الفئات الأخيرة تؤثر عامة على الحوافز أو الموانع المتعلقة بهجرة الموظفين ذوي الكفاءات العالية على حد سواء، إلا أنه من الصعب وضع برامج وتنفيذ سياسات لفئات محددة بعينها، وبالتالي فمع أن الخسارة الاجتماعية الناتجة عن هجرة الكفاءات أكبر بكثير من هجرة العمال المؤهلين وغير المؤهلين (مادامت تكاليف تعليم الكفاءات أعلى بكثير) فإن اهتمام الحكومة بكسب النقد الأجنبي يحول بينها وبين اتخاذ إجراءات شاملة لإيقاف هجرة جميع الفئات والتي قد تكون الطريق الوحيدة الفعالة للحد من هجرة الكفاءات في المدى القريب. وكذلك ليس بالإمكان توفير حوافز متميزة لتشجيع فئة دون الفئات الأخرى.
ومن هنا فمن الضروري أن تناقش ظاهرة الهجرة إلى الخارج في إطار عام وشامل. إلا أنه من الصعب إعطاء الهجرة الدولية حقها من الدراسة دون الإشارة إلى مظاهر الخلل الاجتماعي والثقافي والمهني والتعليمي، ولولا أن بعض البلدان قد عمل على تسهيل وتشجيع هجرة فئات معينة من الكفاءات لظلت هذه الهجرة محدودة النطاق ولهذه الظاهرة جانبان وهما:
1 - العوامل التي تدفع وتساهم في مغادرة الكفاءات من بلدانها.
2 - الحوافز التي تضعها البلدان المستقبلة (المضيفة) كي تجذب الكفاءات.
أولاً: العوامل التي تدفع الكفاءات إلى مغادرة بلدانها: إذا كانت الاحتياجات المستقبلية من القوى البشرية العاملة في مختلف المجالات يجري تحديدها في أية دولة على أساس متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية فإن من حق المرء أن يتساءل عن السبب الذي يجعل هذا البلد أو ذاك يخرج أعداداً من الأطباء أو المهندسين أو العمال الماهرين أو غير الماهرين أو غيرهم دون الأخذ بعين الاعتبار تلك المتغيرات ولاسيما الطلب الاقتصادي على خدماتهم وبرغم انه لا يوجد تفسير معقول لهذا المسلك غير الحكيم سوى أن البلد يعاني من قضايا التخلف دون النظر إلى التخطيط في هذا المجال للاستفادة من الكوادر البشرية ومن وجهة نظر متخصصة فهناك ثمة نواقص كامنة تشوب النظام الصحي والفني أو غيرهما في تلك البلدان ومنها: انعدام التخطيط الواقعي في مجال القوى البشرية وفي ميدان التخطيط التربوي أو الفشل في إيجاد التكامل والتنسيق بين تلك العمليات الأمر الذي يؤدي إلى تطور غير متناسق بين الأنظمة المختلفة أو في داخل كل نظام.. إن هجرة الكفاءات هي بالضرورة نتيجة ترتبت على وضع اللامساواة الحاصل في التنمية بين الدول وبين المناطق والفئات الاجتماعية داخل كل دولة وإذا ما انطلقنا من مقولة أن هجرة القوى البشرية العاملة في أي ميدان هي معظمها نتيجة للسياسات أو الخطط غير الواقعية المطبقة في المجالات والأنظمة المختلفة، فإن عوامل الدفع تشكل الوجه الأساسي للمشكلة ويمكننا القول ان هناك عدداً من العوامل الاجتماعية والسياسية والإدارية والثقافية والعلمية التي لا يمكن اخضاعها إلى ذات النمط من التحليل في كل الظروف والتي يبدو أنها دائماً في البلدان الإسلامية والنامية كافة وراء ظاهرة هجرة الكفاءات.
وبإيجاز يمكننا أن نذكر عوامل الدفع هذه وهي:
1 - عدم الاستقرار السياسي حيث تعاني من هذه الظاهرة معظم البلدان الإسلامية والنامية.
2 - الحواجز الإقليمية بين هذه البلدان (الإسلامية) وغياب التكامل الهيكلي وتنافر برامج وخطط هذه البلدان وكذلك البلدان النامية.
3 - عدم توفر التسهيلات العلمية وعدم وجود المناخ الملائم لإمكانية البحث العلمي.
4 - انخفاض المستوى المعيشي.
5 - السياسة التعليمية فإذا عملت هذه السياسة على زيادة الخريجين من الجامعات بما لا يتفق مع احتياجات التنمية كان ذلك دافعاً لهجرة كفاءات واسعة.
6 - عدم التوافق والمطابقة ما بين التأهيل والإعداد والتدريب والحياة العملية ومن ذلك عدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب.

ثانياً: الحوافز التي تضعها الدول المتقدمة لجذب الكفاءات
في عام 1990 كان 250 ألف طبيب على الأقل موجودين في بلدان لم يكونوا من رعاياها أو لم يولدوا أو يتعلموا فيها، وكان هؤلاء الأطباء يمثلون وقتها وبصورة عامة 6 % من عدد أطباء العالم (باستثناء جمهورية الصين الشعبية) ويصل متوسط من يهاجرون سنوياً إلى ثمن الحصيلة السنوية في العالم، وقد وجد ان ما يزيد على ثلاثة أرباع عدد الأطباء المهاجرين يعيشون في ثلاثة بلدان فقط هي:
الولايات المتحدة الأمريكية وكان فيها 158 ألف طبيب عام 1990 وبريطانيا كان فيها 41 ألف طبيب عام 1990 وكندا وكان فيها 9 آلاف في عام 1971 ثم برزت كل من ألمانيا الاتحادية وكان فيها 6 آلاف في سنة 1991 واوستراليا 4 آلاف في سنة 1992 بوصفها أيضاً من البلدان المهمة المستقبلة للمهاجرين. فما هي المزايا والمشجعات التي تتوفر في البلدان المتقدمة التي تجذب الكفاءات وتجعلها تترك بلدانها؟
يمكن أن نجيب على هذا التساؤول بالنقاط التالية وبإيجاز كما يلي:
1 - المحيط العلمي الأكثر تقدماً الذي يحفز على مواصلة البحث والتجريب وزيادة الخبرة حيث إن ظروف العمل في البلدان المتقدمة وسيلة لتحقيق الطموحات العلمية بما توفره من فرص البحث العلمي ووسائله.
2 - اعتماد الترقية والترفيع بالدرجة الأولى على البحث المنتج والكفاءة الفردية.
إن الصعوبات التي تواجه الكفاءات في بلدانها في دخول مراكز المسؤولية أو على الأقل المراكز التي تتلاءم مع مستوى إعدادها يخلق لديها شعوراً بالكبت يتجلى سواء في اعتراضها على الأجور أو بالاشمئزاز وإهمال العمل والمؤسسات التي تعمل فيها، وفي هجرة عدد كبير منها في نهاية المطاف إلى الخارج، وتجدر الإشارة إلى أن ظاهرة الاشمئزاز من العمل ومن المؤسسات لا تقتصر على الملاكات العليا (ولكن هذه الملاكات بما لديها من إعداد تستطيع بسهولة ان تجد لنفسها ملاذاً في الخارج) بل أنها تتجلى على كافة المستويات مع فارق وحيد هو ان الموظفين الأقل كفاءة لا يستطيعون التعبير عن عدم رضاهم إلا بأعمال الرفض أو المطالبة بأجور أرفع.
3 - توفر الحرية السياسية والاجتماعية في البلدان المتقدمة الغربية أكثر منها في بلدان العالم النامي.
4 - المستوى المعاشي الجيد الذي يحققه الفرد والضمانات الاجتماعية وخدماتها ووسائل الاستهلاك والرفاه المادي وتسهيلاته.
إن الاعتبارات العائدة إلى انخفاض الأجور لا تشكل عاملاً حاسماً على المستوى الاقتصادي بل إنها تدخل في المعادلة من خلال عمليات اقتصادية واجتماعية أكثر تعقيداً.
ونرى أن عوامل الجذب مختلفة فمنها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية وغيرها. لكن العوامل الاقتصادية تحتل مكانتها المؤثرة على الكفاءات الاقتصادية والعلمية، والأشخاص الأكثر تأثراً بهذا العامل هم الأشخاص الأفضل إعداداً والأكثر كفاءة لتسيير أجهزة الإنتاج والتعليم والتدريب في البلاد.
وانطلاقاً من النظرة الشمولية لمشكلة هجرة الكفاءات في هذه البلدان وارتباطها بالإسلام نرى أن هذه المشكلة لا تنفصل عن مكونات التنمية الاجتماعية والاقتصادية الإسلامية من طموح وتحد وعجز، وأبرز هذه المكونات:
1 - التحدي الذي يجابه نهوض البلدان الإسلامية وتكالب عناصر العداء له وترسيخ التجزئة فيه لتجعله يعجز عن الوفاء بالاحتياجات الأساسية لأبنائه ويطمس روح الإبداع للنابغين ويسمح بالظروف الاستثنائية التي تتعرض لها حياة وعمل أبنائه بالاستمرار والتعمق ويفتح طريق النجاح المشوه أمام أقل العناصر كفاءة، واستعداداً للعطاء.
2 - التبعية للبلدان المتقدمة وتأصيل هذه التبعية مع اتجاهات خطط التنمية غير المدروسة وابرز مظاهر التبعية في هذا المجال هي:
أ) الاعتماد على التكنولوجيا المستوردة دون النجاح في تحقيق توظيف لها في هذه البلدان ودون عناية بإيجاد تكنولوجيا وسيطة أو تكنولوجيا ملائمة توفق بين كثافة العمل ورأس المال في هذه البلدان أو تنجح في اختيار المجالات الموافقة للموارد البشرية والطبيعية في هذه البلدان لتقديم إضافة في البناء الحضاري العالمي واحتلال مركز متنام في التقييم الدولي للعمل.
ب) التبعية الثقافية وخاصة نمط الاستهلاك الغربي حين شوه مفهوم النجاح في الحياة وساعد على تهميش نخبة فقدت دورها الإيجابي المنتظر منها.
3 - الاندفاع في سياسات تعليمية وتربوية غير متوافقة مع خطط التنمية حيث فضلت الكم على الكيف وانطبعت بمفاهيم تقليدية في تفضيل العمل المكتبي على العمل اليدوي وعززت عقد الحصول على الشهادات العليا، وساعدت على تفريغ الريف من أفضل عناصره وبالتالي تعميق التخلف والجهل والمرض فيه، وفي نفس الوقت تضخيم مشاكل المدينة وأسر جهود التنمية للتخفيف من معاناة المدينة وفي النهاية تخريج جيش احتياطي للهجرة.
4 - القوانين المتخلفة وإدارة شؤون الأفراد التي اعطت أولوية لعنصر الولاء ليسبق بمراحل عنصر الكفاءة، وسخرت جزءاً كبيراً من إمكانيات التنمية لفرض الرأي الواحد ولاقناع المجموعات والأفراد بقبول الوصاية عليها. وبذلك تم قتل روح الإبداع وشوش مفهوم الولاء.

النتائج المترتبة على هجرة الكفاءات
يمكن تحليل النتائج المترتبة على هجرة الكفاءات من الناحية الاقتصادية والناحية الثقافية والتعليمية وكذلك من ناحية أكثر شمولاً هي ناحية المجتمع النامي الذي يتأثر بها:
1- النتائج الاقتصادية:
تمثل هجرة الكفاءات بكل بساطة اقتطاعاً من القوى العاملة الهامة المتوفرة لدى البلاد والتي تحتاج إليها البلدان النامية (بشكل عام) حاجة ماسة في الجهد التصنيفي الذي تبذله، وينتج عن هذه الهجرة تخريب للقوى المنتجة في الاقتصاد وزيادة التوتر في سوق القوى العاملة العالية المستوى الأمر الذي يؤدي بدوره إلى التأثير على مستوى الأجور. ولا يمكن التعويض عن هذا الاقتطاع بالتحويلات النقدية التي تأتي نتيجة هجرة القوى العاملة العادية التي تقتصر على المواصفات الفنية. وبقدر ما يكون مستوى كفاءة القوى العاملة العالية مرتفعاً بقدر ما تكون خسارتها كبيرة بالنسبة إلى الاقتصاد فبالإضافة إلى تكاليف توظيف قوة العمل والاحتفاظ بها، هناك التكاليف الباهضة للتعليم والتدريب التي تدفع في معظم الأحيان بالعملات الصعبة (كتدريب الكوادر في الخارج) وهكذا فإن متوسط الكلفة السنوية لتدريب أحد أفراد القوى العاملة العالية المستوى في الخارج والتي تتكبدها الشركة الوطنية في الجزائر مثلاً يبلغ 70 ألف دينار جزائري بالنسبة إلى الدرجة الأولى من الكفاءة و 161690 ديناراً جزائرياً بالنسبة إلى الدرجة الثالثة أي بزيادة 2.5 و 3.7 مرة على التوالي بالنسبة إلى متوسط الكلفة السنوية للتدريب في المؤسسة ذاتها(10) وبالإضافة إلى هذه التكاليف التي تمثل المدفوعات النقدية لكل شخص يرسل إلى الخارج ينبغي إضافة تكاليف أخرى يصعب حسابها وهي التكاليف التي تتكبدها الأجهزة المعنية بإرسال العمال إلى الخارج، وتتزايد فداحة التكاليف الناشئة عن هجرة الكفاءات عندما تحدث الهجرة بين فئات السكان الأفضل تدريباً وإعداداً والذين استطاعوا بفضل أقدميتهم في العمل أن يكتسبوا خبرة مهنية واسعة. وبالفعل فإن الخبرة (خصوصاً عندما تقترن بمستوى عال من الإعداد والتدريب المهني) تشكل عاملاً هاماً في إغناء مواصفات القوى العاملة العالية المستوى، شأنها شأن التعليم والتدريب المهنيين وهي تشكل عنصراً أساسياً في المجال الواسع للمعرفة والخبرة الجماعية وبدونها تتعرض كل محاولات التنمية إلى الفشل.
إن الهجرة ظاهرة خطيرة بشكل عام وهجرة الكفاءات بشكل خاص تعتبر أخطر على التطور الاقتصادي والاجتماعي وتكمن الخطورة في:
1- العجز الحاصل بسبب الهجرة في الكوادر العلمية اللازمة لرفع وتيرة التطور الاقتصادي والاجتماعي وهذا ما يؤثر بشكل مباشر على مستوى رفاهية الشعب.
2- في عدم حصول البلاد على أي مردود لقاء ما أنفقته على تعليم هؤلاء الأفراد.
2 - النتائج الثقافية والتعليمية:
يمكن أن نوجز النتائج من هذه الوجهة بما يلي:
1 - تناقص قدرة هذه البلدان في إعداد المؤهلين اللازمين لعمليات التنمية محلياً حيث إن هجرة الكوادر العلمية تحرم الجامعات والمعاهد والمؤسسات التعليمية والتأهيلية من الأجهزة والكوادر التي يكون بإمكانها ان تعمل على إعداد المؤهلين محلياً.
2 - انخفاض المستويات التعليمية في البلد نتيجة تناقص عدد المؤهلين من أعضاء الهيئة التدريسية بالنسبة لعدد الطلاب في الجامعات والمعاهد والمؤسسات التعليمية مما يؤدي إلى تخرج دفعات ذات كفاءة محدودة.
3 - إرهاق الأجهزة الحالية المؤلفة من الفنيين والكوادر العلمية سواء في الجامعات أو المعاهد أو مؤسسات الدولة بازدياد الاعباء عليهم مما يؤدي إلى ضعف الإنتاجية وانخفاض المردود وانتشار روح اللامبالاة، ونمو العقلية الروتينية وفتور الحماس للتجديد والتطور.
4 - عدم القدرة على إنشاء مراكز للأبحاث العلمية أو التوسع القائم فيها، مما يؤدي بالتالي إلى عرقلة التطور والتقدم الفكري والعلمي لهؤلاء الاختصاصيين وتناقص وانخفاض قدراتهم الأساسية بحكم عدم اتاحة الفرصة لها للممارسة والتطبيق.
5 - تناقص القدرة على الربط بين التطورات الثقافية والتعليمية في البلد وبين متطلبات خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
6 - اضطرار الدولة إلى استيراد الخبرات العلمية الأجنبية من الخارج لتلافي النقص الحاصل من جراء الهجرة وبالتالي الوقوع في دائرة التبعية.
وبشكل عام ينبغي النظر إلى ظاهرة الهجرة على اعتبار أنها تشكل آفة عامة في المجتمع بكل أبعادها وتأثيراتها وقد ركزت هذه الدراسة على مشاكل القوى العاملة الاقتصادية والعلمية العالية المستوى إلا أن ظاهرة هجرة الكفاءات تصيب فئات اجتماعية أخرى.
إن الضرر الكبير الذي يلحق بالمجتمع من جراء هجرة الكفاءات لا يمكن تقديره بمعايير بحتة أو بمعايير السوق وحدها، فلابد من تقويم هذا الضرر بكافة آثاره المتنوعة.

مقترحات للمساهمة في حل المشكلة
تبقى مشكلة هجرة الكفاءات بشكل عام قائمة ومتجهة، كما رأينا، نحو الدول المتقدمة صناعياً وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا وألمانيا وغيرها، وهي من المشاكل الرئيسية التي تعاني منها البلدان المصدرة، بل هي انعكاس لواقع التخلف والتجزئة والتبعية الموجودة في البلدان النامية.
وبالتالي لا يمكن إيجاد الحلول لها إلا إذا تم التحرر بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى من خلال النضال الدؤوب داخلياً وعالمياً. وبكلام آخر بإزالة الأسباب التي دعت إلى وجود المشكلة. ومع ذلك وضمن الواقع الموجود فبإمكان البلدان الإسلامية والنامية ان تقوم بإتخاذ اجراءات تخفف من دوافع هجرة الكفاءات وتقدم دافع جذب للكفاءات المهاجرة وهي كما وضعتها لجنة خبراء الكفاءات المنعقدة في الفترة الواقعة بين 2 - 4 شباط 1981، كما يلي:
أولاً: اقتراح الاستفادة من الكفاءات الإسلامية والنامية المهاجرة:
إن غالبية الكفاءات المهاجرة وجدت ظروف استقرارها في المهجر، لذلك فعودتها تخضع لجهود منظمة طويلة المدى، وفي انتظار العودة المحتملة، يمكن لهذه البلدان الاستفادة من هذه الكفاءات لفترات قصيرة على أن يواكب ذلك:
1 - جهد إعلامي موضوعي يقدم للكفاءات المهاجرة في بلاد المهجر إعلاماً موضوعياً يشعرهم بمشاكل بلدانهم وبالدور المنتظر لهم.
2 - اتصال مستمر ورعاية تنمي روح التعاون وتثير مشاعر الحنين للوطن.
3 - تقديم خدمات ملموسة لهم، مثل المساعدة في تعليم أبنائهم لغة بلدانهم الأصلية واللغة العربية لغة القرآن وإرسال محاضرين أكفاء وعلميين لإطلاعهم على المشاكل البحثية والفكرية والفنية في هذه البلدان وتزويد مجتمعاتهم وجمعياتهم بكل جديد من المؤلفات الإسلامية والإنتاج الفكري والعلمي الإسلامي واتخاذ الإجراءات المناسبة لتسهيل زيارتهم للوطن من معاملات إدارية وجمركية وأمنية.
وتوضع برامج للاستفادة من هذه الكفاءات المهاجرة وتتضمن:
1 - دعوتهم لالقاء محاضرات علمية في مجالات تخصصهم وتسهيل لقائهم مع زملائهم في التخصص وفي مراكز البحث والجامعات في هذه البلدان.
2 - دعوة طليعة من الكفاءات العالية المهاجرة ليكونوا أعضاء دائمين أو مراسلين لمجالس البحث العلمي ولجان التخطيط للبحث العلمي في بلدانهم الأصلية.
3 - دعوتهم لاستشارات فنية يرتبطون من خلالها بالمشاريع الهامة التي تقام في البلدان الإسلامية والنامية وذلك أثناء مناقشة خطة التنمية أو مناقشة دراسات الجدوى الاقتصادية للمشاريع الهامة.
4 - التعاقد معهم لفترات محددة برواتب مجزية في إطار تنفيذ مشاريع محددة.
5 - تخصيص نصيب من التسهيلات السياحية ومراكز قضاء الإجازات للكفاءات المهاجرة ولعائلاتهم في البلدان الإسلامية والنامية.
6 - تقديم شركات الطيران في هذه البلدان تسهيلات في السفر بين بلدان المهجر إلى هذه البلدان.
7 - ترجمة مؤلفات الكفاءات الإسلامية والنامية وطباعتها وتقديم مكافآت عادلة عن ذلك.
8 - اشراك من يرغب منهم في الضمان الاجتماعي (التأمينات الاجتماعية) المعتمد في البلدان الإسلامية والنامية بما في ذلك ضمان الشيخوخة، والعجز والوفاة.
9 - تأمين السكن وما يليق بهم عند عودتهم وإعطائهم تسهيلات كبيرة في كافة الأمور.
إن هذه المقترحات تمثل مدخلاً لإعادة الكفاءات المهاجرة على أن تترجم إلى قرارات تنفيذية تلتزم بها كل المصالح المعنية في هذه البلدان وتتحمل فيها البعثات الدبلوماسية في الخارج مسؤولية هامة.
ثانياً: اقتراح سبل الحد من نزيف الكفاءات:
إن نزيف الكفاءات يعتبر من أخطر القضايا التي تواجه هذه البلدان وتستدعي تضافر جميع الجهود على المستويين المحلي والعام وتلح على بلورة رؤية جديدة للتنمية في هذه البلدان تغير من الهياكل القائمة ويمكن البدء بالإجراءات التالية:
1 - تكثيف رعاية المبعوثين للبحث والدراسة والتدريب، رعاية مادية ومعنوية، والتوجيه الجاد للاستفادة من طاقات البحث والدراسة والتدريب المتاحة في البلدان الإسلامية والنامية الأخرى، وفي إطار الرعاية تقديم المنح الدراسية وإرسال أساتذة أكفاء للاتصال بالمبعوثين، وتحمل تكلفة عودتهم كل سنة إلى عائلاتهم ووضع برامج لاشراكهم في العمل والإنتاج أثناء الإجازات الدراسية.
2 - إعادة النظر جذرياً في سلم الأجور والرواتب التي تمنح للكفاءات الإسلامية والنامية في بلدانهم، وتقديم حوافز مادية ترتبط بالبحث والإنتاج، وتقدم الأجر المتساوي مع العمل المتساوي وترفع الحدود العليا للأجور لمكافأة البارزين من ذوي الكفاءات وتقديم الحوافز التشجيعية والتسهيلات الضريبية والكمركية للوفاء بالاحتياجات الأساسية خاصة منها المساعدات التي تكفل توفير السكن المناسب وتقديم الخدمات اللازمة لقيامهم بأعمالهم على أحسن وجه.
3 - احترام الجانب الإنساني في الكفاءات وخاصة منها حرية الرأي وبشكل خاص فيما يتعلق بمجالات اختصاصاتهم الفنية.
4 - إعطاء المسؤوليات الفنية للفنيين، وان يلتزم سلم الوظائف بشرط الكفاءة التي يجب أن توضع لها معايير علمية، دقيقة، تبعده عن النزوات والأهواء الشخصية.
5 - تقليل الشعور بالغبن بالمقارنة مع زملائهم الخبراء الأجانب العاملين في الدول الإسلامية والنامية.
6 - الالتزام باستراتيجية العمل الاقتصادي الإسلامي فيما يتعلق بسياسة البحث وتخصيص 3% من الدخل لاغراض البحث العلمي وبرمجة سياسة البحث العلمي على المستوى الإسلامي والنامي.
وباختصار، تعتبر هجرة الكفاءات إفرازات طبيعية من البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية... الناتجة عن الخلل التنموي في هذه البلدان.
ويجب ان ترتكز الحلول على الأسس التي من شأنها ان تخلق التوازن التنموي في هذه البلدان والذي يؤدي بدوره إلى الأخذ بالتخطيط العلمي الدقيق، للموارد البشرية الموجودة والتي تعتبر بحق الركن الأساسي في التنمية. كذلك الاهتمام بالتفرغ العلمي والبحث العلمي المفيد وإغناء المكتبات وتحديثها والعمل على تحقيق الاستقرار السياسي والفكري والاجتماعي وتحسين الأوضاع المادية بحيث تتلائم مع الجهد المبذول وحاجة المجتمع إليه.
ولا يخفى على أحد أن القاعدة الاقتصادية المتينة هي الدرع الواقي من الضغوط الخارجية وهي الوسيلة الأساسية للحفاظ على المكتسبات لأي بلد يريد النهوض والتطور..
الهـــوامـــش:
1 - هجرة الكفاءات (بحوث ومناقشات ندوة اكوا).
2 - مجلة الاقتصاد العدد 206.
3 - الطاهر الهادي الجهيمي - التنشئة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية.
4 - بعد الهجرة - إلى النفط - قوافل العودة إلى القحط، عفيف ظاهر.
5 - نفس المصدر السابق.
6 - العالم الإسلامي والتكنولوجيا - عفيف عواد
7 - التخلف والتنمية في العالم النامي - ج. م . البرتيني.
8 - الهجرة إلى أوروبا (أحمد تناسكا).
9 - نفس المصدر السابق.
10 - مجلة المستقبل العدد 15