إدريس لكريني
أصبح موضوع الهجرة يحظى في العقود الأخيرة بأهمية كبرى ضمن مختلف الدراسات الأكاديمية واللقاءات الدولية، ويشكل محورا أساسيا للعديد من الاتفاقيات الثنائية والجماعية بين الدول، وقد أسهم في ذلك التحولات الدولية المتسارعة المرتبطة بعولمة الاقتصاد والسياسة والثقافة والقيم.. التي أدت بدورها إلى بروز إشكالات ونقاشات بين دول الجنوب ودول الشمال بهذا الخصوص، بعدما انخرطت هذه الأخيرة في تطويق الظاهرة بترسانة مكثفة من الإجراءات والتدابير القانونية والأمنية، متذرعة في ذلك بمجموعة من الأسباب(الأعباء المالية والاقتصادية والاجتماعية للمهاجرين، واعتبار بعضهم مصدرا لانتشار التطرف والإرهاب..). فبعد انهيار المنظومة الشرقية ونهاية الحرب الباردة وما تلاه من ترويج مكثف للنظام الليبرالي كنموذج متفوق وفريد, راجت الخطابات الدولية القاضية بمحدودية سيادة الدولة في زمن العولمة بفعل تشابك المصالح وتزايد سياسات الاعتماد المتبادل، وانخرطت مختلف دول العالم في الحد من مناعة وقداسة الحدود السياسية والجغرافية بينها، عبر اتخاذ مجموعة من الإجراءات الميدانية( تبني مجموعة من الإصلاحات والترتيبات على مختلف الواجهات: الاقتصادية والسياسية والمؤسساتية..) والاتفاقية التي تسمح بحرية تنقل رؤوس الأموال والبضائع والأفكار, بينما ظلت أمور عديدة مهمة على هامش "بشرى" هذا التجانس المعلن - الذي يتوخى إزالة ما يعرف بالتمايز بين المحلي والعالمي في إطار سياسة التحرير- وبخاصة في ارتباطها بتنقل الأشخاص من دول الجنوب نحو بلدان الشمال, هذا الملف الشائك الذي لم يطله نفس الاهتمام الذي حظيت به الأمور الاقتصادية والتجارية.., حيث تبنت الدول الأوربية مجموعة من السياسات التي حاولت في مجملها الحد من تدفق المهاجرين، بعدما كانت في بداية الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم, تقدم تحفيزات تشجيعية بغية جلبهم، عندما كانت بحاجة إلى سواعد شابة لبناء اقتصادها الذي أنهكته الحروب والأزمات.وكان من أهم نتائج هذه التوجهات فيما يتعلق بدول المغرب العربي, أن شكلت الجالية المغاربية ثالث جالية بأوربا بعد تركيا وأوربا الشرقية سابقا, إذ ساهمت بشكل كبير في بناء الاقتصاد الأوربي وإنعاش الموازين التجارية للدول المغاربية بفعل تحويلاتها المالية نحوها.وتعد فرنسا من ضمن أكبر الدول التي تحمست حينها لجلب أكبر عدد من المهاجرين الشباب من إفريقيا، وبخاصة من منطقة المغرب العربي للعمل في المقالع والمناجم والحقول والطرق والمصانع.. بأجور رخيصة.إن هذه الوضعية وبفعل انهيار الاتحاد السوفييتي وما تلاه من رغبة متزايدة في توسيع الاتحاد الأوربي من جهة، وتزايد وثيرة الهجرة المغاربية إليه تحت ضغط الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة من جهة أخرى.. بدأت تتغير ابتداء من العقد الأخير بفعل الترسانة القانونية الجديدة التي أقدمت عليها دول الجماعة الأوربية من أجل تنظيم هذه التدفقات نحو بلدانها والسعي الحثيث للحد منها.ومن جانب آخر وجد معظم المهاجرين المغاربيين أنفسهم - وإلى جانب العديد من نظرائهم المنحدرين من أصول إفريقية – وبعد مرور عقود على استقرارهم في العديد من الدول الأوربية، على هامش المجتمع، بفعل تضافر وتراكم مجموعة من الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية..، الأمر الذي طرحت معه بحدة أسئلة ملحة تتعلق أساسا بمدى قدرة الدول الأوربية المستقبلة على تحقيق اندماج حقيقي لهؤلاء داخل مجتمعاتها.فالإقامة القانونية وأوراق الجنسية والفضاء الديموقراطي..، كلها عناصر لم تكن كافية لتأمين عيش كريم لهؤلاء، ولم تحمهم من الحيف والتهميش الاجتماعيين والتمييز العنصري الذي طال العديد منهم..وقد جاءت أحداث ضواحي باريس حيث تقطن نسبة مهمة من المهاجرين المنحدرين من أصول مغاربية وإفريقية، والتي حملت مظاهر من العنف وإضرام الحرائق في المباني والسيارات والمدارس العمومية والخاصة..،- قبل أن يطال ذلك مدنا ومناطق أخرى- لتكشف جزءا من المأساة اليومية التي ما فتئ يتخبط فيها هؤلاء، ولتظهر بشكل جلي زيف الشعارات الأوربية والفرنسية – على وجه الخصوص – التي تؤكد على اندماجهم في المجتمعات الأوربية. وعلى الرغم من أن هذه الأعمال جاءت كتعبير تلقائي على واقع مزر ما فتئ يعيشه العديد من السكان الفرنسيين المنحدرين من أصول مغاربية وإفريقية، ويعكس التهميش والعنصرية والبطالة والسكن غير اللائق والحرمان من الخدمات والتأمينات الاجتماعية.. فإن وزير الداخلية الفرنسي وصف القائمين بهذه الأشكال الاحتجاجية بالرعاع والأوباش، قبل أن يتوعد بترحيل كل من يتورط في أعمال الشغب، فيما أقدمت السلطات الفرنسية على فرض حظر التجول في مختلف المناطق، وهي الحالة التي لم تعهدها فرنسا منذ ما يربو على النصف قرن.أما الأحزاب الفرنسية المعارضة، فقد جاءت مواقفها من هذه الاحتجاجات متماهية إلى حد كبير مع المواقف الحكومية..، فيما حاول اليمين المتطرف الذي طالما طالب بترحيل المهاجرين و"تطهير" البلاد منهم، باعتبارهم مصدرا لكل المشاكل التي تحيط بفرنسا، استثمار هذه الورقة لجلب مزيد من المتعاطفين مع برامجه وتطلعاته، حيث طالب بتعزيز سياسة إغلاق الحدود أمام الهجرة المغاربية والإفريقية بشكل عام. وعلى العموم، شكلت هذه الأحداث مؤشرا قويا على فشل الحكومات الفرنسية المتعاقبة، اليمينية منها واليسارية على حد سواء خلال السنوات الأخيرة في دمج المهاجرين وبخاصة المغاربيين منهم، الذين يحتلون نسبة مهمة من مجموع السكان.والغريب في الأمر أن البرامج الانتخابية للعديد من الأحزاب الفرنسية على اختلاف توجهاتها، حفلت بشعارات تبشر في مجملها بالتسامح وبتحقيق الاندماج وتحسين أحوال المهاجرين..، ويبدو أن اللون والانتماء الثقافي والعقائدي لفئة من المهاجرين، لازال يشكل عائقا دون تحقق هذا الاندماج المستحق.والجدير بالذكر أن الطابع العفوي والتلقائي لهذه الاحتجاجات التي اتخذت أشكال من الفوضى أحيانا، لم يحل دون شد انتباه الطبقة السياسية الفرنسية إلى مظاهر الحرمان والحيف والتهميش التي تطال هؤلاء، وفرض بذلك نقاشا واسعا حول مستقبل الجاليات الأجنبية في فرنسا وإمكانية نجاح هذه الدولة في دمجها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.. وبعث أيضا برسالة حقيقية إلى العديد من الدول الأوربية التي تحتضن نسبة كبيرة من المهاجرين الذين لم يسمح لهم بعد بالاندماج الحقيقي في هذه المجتمعات.وبالنظر إلى الطابع الاجتماعي لأهدافها - ارتباطها بمعاناة يومية- ، وعفوية تقنياتها ووسائلها، فإن هذه الاحتجاجات لم تحمل أي طابع إيديولوجي ولم تؤطر بشكل سياسي منظم، كما لم تتجرأ أية جهة سياسية على استثمارها، ولعل هذا ما جعلها تستأثر باهتمام إعلامي دولي واسع.. وتحظى بتعاطف كبير في أوساط الرأي العام العالمي، مما أثر في صورة فرنسا دوليا، رغم اتخاذها- الاحتجاجات- أبعاد ووسائل منحرفة أحيانا، وبخاصة عند استهداف ممتلكات الغير.إن هذه الأحداث بينت أن الإفرازات السلبية للهجرة الدولية والمجسدة لعدم الاندماج: الشعور بالدونية, العيش على هامش هذه المجتمعات, ممارسة العنف بمختلف أشكاله.., تعكس بالملموس المأزق الذي وصلت إليه المقاربات والسياسات التي عولجت بها قضايا الهجرة الدولية, وتكشف أيضا أن الأسئلة الحقيقية في هذا الصدد، ظلت مغيبة. فعوض أن تشكل الجماعات المهاجرة في مجمل الدول الأوربية جسرا للحوار والتلاقح والتعايش بين مختلف الثقافات والحضارات, ورابطة إنسانية واقتصادية وثقافية فعلية تستفيد منها جميع الأطراف والشعوب، تعرضت في معظمها لتهميش ممنهج. وأخيرا يمكن القول أن المقاربات المحكومة بالهاجس الأمني والتي أكدت الممارسة الميدانية عقمها وعجزها، ينبغي أن تتراجع لتفتح المجال لتدابير ديموقراطية أكثر عمقا وعقلانية، تعتمد الأخذ بالعدالة الاجتماعية ضمن أهدافها وممارساتها، بالشكل الذي يتيح اندماجا حقيقيا لهؤلاء المهاجرين، ويسهم في تدبير اختلافاتهم العقائدية والثقافية.. ويوفر لهم الشروط الموضوعية والضمانات اللازمة لتوفير عيش كريم، أسوة بباقي المواطنين الفرنسيين والأوربيين..