19 juin 2006

السيرك


أصبح على القلة القليلة من المواطنين، الذين تقودهم الصدفة، أو تحتم عليهم ظروفهم الاجتماعية، متابعة جلسات البرلمان بغرفتيه، التي يبثها التلفزيون الرسمي مساء كل ثلاثاء وأربعاء، أن يشدوا أعصابهم مائة مرة في اللحظة الواحدة عندما يتقدم أحد "ممثلي الأمة المحترمين" لإلقاء سؤال شفوي أو عندما ينبري أحد وزراء حكومة إدريس جطو للرد عليه، لأن المشهد قد ينقلب الى تنابز بالألقاب وتشابك بالأيدي، وقد كادت قبة البرلمان أن تتحول في بعض الأحيان الى حلبة للملاكمة. وقبل سنوات، وصف الملك الحسن الثاني البرلمان بالسيرك، لكنه سيرك بدون متعة، لأن الممثلين به مجرد مهرجين فاشلين يؤدون نفس اللعبة السمجة منذ أن وجد البرلمان في المغرب كواجهة لديمقراطية مزيفة. لقد وجدت البرلمانات في الديمقراطيات الحقيقية لمراقبة عمل الحكومات ومحاسبتها والإطاحة بها، ولم يسبق لأي من البرلمانات المغربية أن أطاح بحكومة أو حتى وزير، وخلال أكثر من أربعين سنة من الحياة البرلمانية في المغرب تم تقديم ملتمسي رقابة اثنين فقط ولم يؤد أي منهما الى الإطاحة بالحكومات التي كانت قائمة آنذاك أو تغيير تشكيلاتها. لو كان البرلمانيون الحاليون يحترمون ناخبيهم لاستقالوا أو قاطعوا جلسات البرلمان الحالي، التي يغيب عنها الوزير الأول إدريس جطو مند أن عين في منصبه قبل أربع سنوات، أما الوزير القوي داخل الحكومة فؤاد عالي الهمة، الذي لم يسبق له أن أجاب عن سؤال شفوي واحد أمام البرلمان، فلا أحد من البرلمانيين يجرؤ فقط على ذكر اسمه فبالأحرى المطالبة بحضوره لاستجوابه، كما كان يفعل النواب في دولة مثل الكويت قبل أن يحل أمير الدولة البرلمان. فبالرغم مما يمكن أن يقال عن ديمقراطية آل الصباح في الكويت (آسف عن التشبيه، لأنه لا يمكن أن نقارن البرلمان عندنا، ببرلمانات الدول الديمقراطية ما دامت لا توجد عندنا ديمقراطية حقيقية)، فإن النواب في تلك الدولة التي لا تعترف بنصف سكانها وتعتبرهم "بدون" مواطنة، كانوا >يجرجرون< وزراء ورؤساء حكومات إمارتهم وأغلبهم من أعضاء الأسرة الحاكمة لاستجوابهم، ورأينا كيف نزل أعضاء برلمان تلك الإمارة الخليجية الى الشارع عندما رفضت الحكومة مقترحهم بتقليص عدد الدوائر الانتخابية، وكيف انضم إليهم الناس لمؤازرتهم.النواب عندنا بالكاد يجرؤون على طرح أسئلة أغلبها شخصية أو تخفي مصلحة انتخابية، ودائما يكون فيها السؤال مكتوبا والجواب مكتوبا والتعقيب والرد على التعقيب مكتوبين، والخروج عن النص ممنوع. وعندما تكسر هذه القاعدة تتحول الجلسات الى ملاسنات وتشنجات كتلك التي حصلت في الفترة الأخيرة بين الوزير سعد العلمي ونائب من فريق العدالة والتنمية أو تلك التي حصلت بين الوزير عادل الدويري وأحد أعضاء حزب العقيد عبدالله القادري.. أما المشاجرات التي تقع بين أعضاء الفرق النيابية فهي تحيل على ما يقع داخل الحمامات النسائية بالأحياء الشعبية. وإلا فما الذي يهم المواطن من معرفة جواب الحكومة عن سؤال لأحد نواب العدالة والتنمية حول العقد الجنسية لزوج إحدى ناخبات هذا الحزب الذي يدعي الطهرانية؟ أو ما هي الخدمة الحقيقية التي قدمها الوزير عادل الدويري للمواطن عندما استغل منبر البرلمان للحديث عن أصول جده وأخلاق والده، بينما كان السؤال الموجه إليه يحيل على زوجته التي تدير شركة للسياحة يتهمها صاحب السؤال بالاستفادة من موقع زوجها في الوزارة للحصول على صفقاتها؟! (للتذكير فقط فهذه الشركة التي كان يديرها الدويري قبل توليه منصب الوزارة كانت على وشك الإفلاس، وهذا سؤال آخر ما زال ينتظر من سيطرحه على الوزير الأول لمعرفة كيف أمكنه أن يوكل إدارة وزارة الى شخص فشل في إدارة شركته الخاصة؟!). كان الفقيه البصري يسخر من البرلمان الحالي عندما وصفه بأنه أكبر برلمان في العالم (على غرار مقولة أكبر ديمقراطية في العالم التي توصف بها الهند). يفوق عدد أعضائه الستمائة أعضاء مجلس الشعب في الصين الشعبية، وكان أعضاء المعارضة الاتحادية السابقة يصفون البرلمان بغرفة التسجيل.. لكن ما غاب عن الفقيه البصري هو أن ميزانية هذا البرلمان هي الأخرى من أضخم ميزانيات البرلمانات في العالم إذ تقدر بأربعين مليون دولار جزء كبير منها يصرف على بذل وتنقلات القايد عبدالواحد الراضي، الذي يطوف العالم ثمانين مرة في السنة، وبذلك تحولت غرفة التسجيل الى صندوق أسود لا أحد يعرف أسراره. لقد قامت لجان برلمانية في هذا البرلمان وفي البرلمان السابق بافتحاص الميزانية المعتمدة لهما، لكن تقارير تلك اللجان ظلت طي الكتمان، واليوم تكشف فضيحة مباراة التوظيف بمجلس النواب عن الفساد الذي ينخر هذه المؤسسة التي كان من المفروض فيها مراقبة عمل الحكومة لحماية مال الشعب من كل فساد، فإذا بها كما يقول المثل الشعبي المصري >حاميها حراميها
علي أنوزلا