حكى لي مؤخرا أحد أصدقائي المثقفين أنه زار المعرض المغربي، الذي ينظم حاليا بقلب مدينة أمستردم، تحت رعاية كل من ملك المغرب محمد السادس وولي عهد هولندا فيلم أليكسندر، وبينما وهو يتمشى بين أروقة المعرض، إذا به ينتبه إلى امرأتين هولنديتين تتحدثان عن المعرض بإعجاب وانبهار، حيث قالت إحداهما للأخرى ما معناه، أن الذين يعتبرون الثقافة المغربية ثقافة متأخرة ومتخلفة، إنما هذا الوصف ينطبق عليهم! وبعد مضي فترة من الاستكشاف الممتع لمكونات ومواد وتحف المعرض المتنوعة، التي تشبه تنوع المغرب الطبيعي والبشري والحضاري، اتجهت إحدى تلك المرأتين إلى صديقي المثقف، وهي تطرح عليه سؤالا لم يتوقعه، وهو: لماذا لا تفتخرون بثقافتكم المغربية الأصلية؟!في الحقيقة، كنت قد نويت زيارة ذلك المعرض المغربي، الذي احتضنته مدينة أمستردم طوال أربعة أشهر، امتدت من نوفمبر 2004 إلى أبريل2005، وما دام أنه سوف يستغرق كل هذه المدة، فلم أتسرع في الزيارة، بقدرما ارتأيت أن أقوم بذلك لما يتسنى لي يوما فارغا، خال من العمل والالتزامات، خصوصا وأن ظروف الحياة في الغرب لا تدع لك فسحة فراغ، حتى للأمور الإدارية، وبالأحرى للأمور الثقافية، من مثل زيارة معرض أو متابعة محاضرة أو ندوة! إلى درجة أن الإنسان أصبح هنا مربوطا إلى عربة الوقت التي تندفع إلى الأمام في جنون، دون أن تترك له حتى فرصة حك شعر رأسه، هكذا أصبح الناس هنا مرهونين بعقرب الزمن، حيث الوقت أنفس من الذهب، عكس ما يشير إليه المثل العربي الذي يجعل منه ذهبا! فالوقت هنا لا يغتال أو يقتل كما في العالم الإسلامي، وإنما يستثمر، فالمثل الهولندي المشهور: الموعد هو الموعد، يسيل على كل الألسنة، حتى التي تعتريها الأمية. عندما حكى لي صديقي المثقف ذلك الشبه حوار، قررت بلا تردد أن أزور ذلك المعرض، ليس وحيدا، وإنما مع زوجتي وابنتي التي كانت حينذاك تبلغ من العمر حوالي خمسة أشهر، فخصصت يوما كاملا لذلك، يوما أزور فيه وطني، ليس عبر الطائرة، أو عبر رحلة الثلاثة آلاف كيلومتر، وإنما عبر الترام من منزلي الكائن في غرب أمستردم، نحو ساحة دام، حيث تتموقع الكنيسة الجديدة العتيدة، أين يقام المعرض. لقد كنت دوما أقول لأصدقائي ومعارفي، إذا كنتم مشتاقون إلى الوطن، فعليكم بزيارة قنصلية المغرب بأمستردم، حيث كانت حالتها قبل حوالي عام متردية ومزرية، وتقدم خدمات أردأ ربما مما تقدمه الإدارة المغربية بالمغرب! حيث بمجرد ما يذهب المرء إلى هذه القنصلية لقضاء حاجة ضرورية، يكتشف مدى قسوة الوطن عليه فيقل حنينه إليه! ونتمنى أن يستمر النهج الجديد الذي بدأ يسن داخل القنصلية، حيث بدأت تظهر بعض مظاهر الإصلاح الأولي، والخدمة لا نقل الجيدة، وإنما المرضية! مما يجعلني أستحضر فكرة جدلية أو عقدة الأمومة والبنوة أو الأم والابن، التي ضمنها المفكر الإيراني علي شريعتي كتابه (العودة إلى الذات)، حيث يستجلي أن الأم رغم أنها تضرب ابنها الصغير فهو يلجأ إليها، كأنه يحتمي منها بها! وهذا نفسه يسري على العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر، فهو رغم أنه قهر العديد من الشعوب واستعبدها وسرق ثرواتها، فإن هذه الشعوب – بعد استقلالها - تلجأ إليه! نفس هذه العقدة تنطبق على المهاجرين والوطن، فرغم أن سياسة الدولة أو الوطن الذي ينتمون إليه تمارس عليهم الحيف والتقصير والجور، فإنهم في آخر المطاف يلجأون إليه!كذلك حدث لي عندما لجأت إلى وطني الذي زارني في المنفى! أولا لأروي منابت الحنين التي تنغرس في وجداني، وثانيا لأكسر أسطورة التخلف التي ينسجها الآخر علي وعلى وطني المتحضر، رغم أنه يوجد في موضع لا يحسد عليه في لائحة ترتيب الدول من متقدم إلى متأخر، أو من منتج إلى مستهلك! فأحاول فهم نفس ما فهمته تلك المرأة الهولندية، التي رأت في المغرب، من خلال ذلك المعرض، عالما زاخرا يوحي بالافتخار، الذي لا يحس به غالبية المغاربة الموجودين في المهجر، وأستنبط أسبابا جديدة تعزز لدي ذائقة الفخر والاعتزاز بتربتي الأصلية، لكن أتكفي هذه الذائقة لإقناع الرجل الأبيض أو الأحمر، الذي لا يرى في هؤلاء الجنوبيين الذين يطلعون في العواصم الغربية كالفطر، إلا رعاة للبهائم، لا يملكون حتى قوت يومهم، وما جاءوا إلى الغرب إلا فرارا من الجوع والأوبئة؟!
حول مكان وزمان المعرض
إن تنظيم معرض المغرب بمدينة أمستردم تم في ظرفية تاريخية حساسة، حيث تواكبت شتى الأحداث التي اعترت وجود المهاجرين المغاربة بهولندا، فجعلته وجودا منغصا للحياة العامة، كما تطالعنا الصحافة الهولندية، وكما تنقل إلينا آراء العديد من السياسيين والمسؤولين، وبغض النظر إلى تلك السلوكات اليومية المنحرفة التي يزاولها عدد من الشباب المغربي، والتي تتمثل في السرقة والتزوير وتعاطي المخدرات والإساءة إلى الآخر وغير ذلك، فإن أهم حدث جعل الكأس تفيض بما فيها، هو مقتل المخرج السينمائي الهولندي ثيو فان خوخ على يد شاب من أصل مغربي، هذا المقتل الذي ران على كل الأصعدة والمستويات، رغم توالي الأيام، وتعاقب الليل والنهار، ما دام أنه ضرب بحدة في كبد النرجسية الهولندية، حتى أنه رغم مرور أشهر على ذلك، فالأقلام لا تريد أن تجف، والصحف لا تريد أن ترفع! والحديث مازال يدور حول ذلك في كل النوادي والمجالس، ولم يخل من ذلك حتى هذا المعرض التراثي، حيث سألت الصحافة الهولندية وزير الثقافة المغربي الذي كان حاضرا أثناء افتتاح المعرض، عن مقتل ذلك المخرج الهولندي، فكان جوابه مفحما وصائبا؛ حيث اعتبر القضية قضية داخلية بحتة، تهم الدولة الهولندية، وأن القاتل ما هو إلا مواطن هولندي!في خضم ذلك الجو المكهرب، كان المغرب يعرض تراثه الخالد على الهولنديين، وكأن لسان حاله يقول: هذا هو المغرب الحقيقي، أما ما ترونه في شوارع أمستردم وغيرها، من تصرفات لا اجتماعية ومشينة، يقترفها شرذمة من الشباب المنحرف، فهي استثناءات صادرة من قلة قليلة لم تتلق التربية الضرورية، ما دامت تنتمي إلى أبسط شرائح المجتمع! محاولا بذلك تهدئة روع الهولنديين، عن طريق تقديم ذلك المعرض، الذي يمكن اعتباره مسكنا، جاء لإطفاء شرارة الغضب الذي مس المجتمع الهولندي، جراء جملة من الانحرافات التي صدرت عن بعض أفراد الجالية المغربية بهولندا، لكن هل تمكن هذا المسكن من إطفاء تلك الشرارة؟ هل تم توصيل الخطاب الحضاري الذي أتى به المعرض إلى كل طبقات المجتمع الهولندي؟ هل كان تواصل الهولنديين مع مكونات ذلك المعرض مبنيا على الثقة والإيمان بالآخر؟في الحقيقة إن مكان وزمان ذلك المعرض، كانا في غاية الاختيار والدقة، فالمكان هو الكنيسة الجديدة المشهورة التي تقبع في ساحة دام الكائنة في قلب مدينة أمستردم، وهو متعدد الوظائف حيث يستعمل أحيانا كبورصة مؤقتة، أو قاعة موسيقية، أو فضاء لتوزيع الجوائز والشهادات أو معرضا أو غير ذلك، وهو بذلك اكتسب أبعادا مختلفة تراثية كانت أو ثقافية أو حضارية أو معمارية أو ما إلى ذلك، تؤهله لأن يكون مستقطبا للزوار والمهتمين، فهو مشهود له ليس فقط على المستوى المحلي، وإنما حتي على الصعيد الوطني والعالمي، حيث استقبل معارض كثيرة مثلت العديد من الدول والثقافات والديانات، وما المغرب هذه السنة إلا رقم إضافي على أرقام لائحة ذلك المعرض، سبقته أرقام وستعقبه أرقام أخرى لا تحصى! ومن بين أهم المعارض التي نظمت في هذا المكان تجدر الإشارة إلى: معرض حول بوذا (1995)، ومعرض الطريق إلى السماء (2000)، ومملكة ستوخانوف (2003) وغيرها.أما الزمان فيمتد من 17 ديسمبر 2004 إلى 17 أبريل 2005، فهو بذلك يستغرق أربعة أشهر كاملة من الحضور المغربي داخل فضاء أمستردم، ويحمل شعارا ذا دلالة زمنية وهو: المغرب 5000 سنة من الثراء، وهو بذلك يتزامن مع موسم الشتاء وجزء من موسم الربيع، وهما موسمان يتميزان بالحركة والإنتاج والعطاء، قبل أن يحل الصيف حيث تقل الحركة وينضب الاجتهاد، ويستولي على الأجساد الكسل، والتفكير في العطل! كما أن هذا الزمان الذي يعتدل فيه نوعا ما الجو، يستجلب أكبر عدد من السياح، الذين لا محالة سوف يستهويهم معرض المغرب هذا، فينشدوا إلى اسم المغرب المكتوب بخط كبير على بعض واجهات الكنيسة الجديدة، وهو مزين بخلفيات من الزليج المغربي التقليدي.
طغيان البعد السياحي
لقد استنتجت منذ البداية أن البعد الطاغي على هذا المعرض هو البعد السياحي، وما يعزز استنتاجي هذا، هو الملاحظات الآتية:- كان الكثيرون يعتقدون أن هذا المعرض إنما جاء لحفظ ماء وجه المهاجرين المغاربة، وأنه حاول كشف اللثام عن الجانب الحقيقي للمغرب، حيث تضرب الحضارة المغربية بجذورها في غور التاريخ، كما يحيل على ذلك شعار المعرض، الذي يتمحور حول 5000 آلاف سنة من التاريخ، وهو تاريخ يجعل الهولنديين ينشدون إليه في حيرة واندهاش، خصوصا لما يقارنوه بتاريخهم الذي لا يتعدى النصف قرن! لذلك كان لزاما على منظمي المعرض (وأقصد هنا المغاربة) أن يخصصوا ميزانية لذلك، ولو بتخصيص نسبة مأوية بسيطة، مما تدره الجالية المغربية المقيمة بهولندا على خزينة الدولة، فيجعلوا الدخول إلى المعرض مجانا، بل ويجعلوا من هذا المعرض نفسه تقليدا سنويا.- لكن المنظمين لم يفكروا في هذا، بقدرما فكروا في المداخيل المالية التي قد يدرها عليهم هذا المعرض، خصوصا وأنه يوجد في ساحة سياحية معروفة على الصعيد العالمي، لذلك حددوا ثمن التذكرة العادي في 10 أورو، فهو ثمن ليس مرتفعا سواء بالنسبة إلى السياح، أم إلى المثقفين، لكن فيما يتعلق بالمهاجر المغربي العادي، فذلك يشكل معرقلا يصرفه عن مجرد التفكير في ذلك المعرض! لذلك كان ينبغي أن تتواكب مجانية المعرض مع حملة دعائية وإعلامية محكمة، حتى ينشأ التحفيز اللازم لدى سائر المغاربة على زيارة المعرض. كما أن الشاي المغربي الذي كان مطعم مراكش يبيعه في المعرض، حبذا لو أنه قدم مجانا للحضور، حتى يثبت أن الشعب المغربي حقا شعب سخي وجواد!- وما دام المنظمون لم يفكروا في هذا الجانب المهم، فإنهم بذلك أغفلوا ذلك التحدي الثقافي الحقيقي الذي كان ينبغي للمعرض تقديمه، وهذا لا يعني أننا ننفي أي تأثير له على الهولنديين أو السياح الأجانب، فهذا واضح في ذلك الشبه حوار الذي دبجت به مقالي، لكن ذلك لا يتجاوز النخبة المثقفة، في حين يظل الإنسان العادي، سواء الهولندي أو المهاجر، في غياب تام عما يحدث، وبذلك تظل وجهة نظر كل واحد منهما حول الآخر ثابتة.- ثم إن أي قراءة سريعة في نوعية الحضور الذي كان يزور أروقة المعرض، تجعل المرء يستقرئ أن أكثر من 70% من الزوار كانوا هولنديين أو سياح أجانب، وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على أن المعرض كان ذا طابع سياحي، و موجه بالدرجة الأولى إلى الآخر، وإلا فلماذا كان ذلك الغلاء الفاحش في أثمنة المواد التقليدية المغربية والكتب والتذكارات وغيرها، التي كانت تباع لدى الجانب الأيسر من مدخل المعرض؟ أكان ينتظر من الزائر المغربي أن يبتاعها وهي موجودة عند أي جزار أو متجر مغربي بأثمنة مناسبة، أم أن معرفة المنظمين العميقة بالسائح الأجنبي الذي تنفتح شهيته لتلك المبيعات، مهما كان غلاؤها هي التي أوحت لهم بفكرة بيع الشاي المغربي، وإقامة متجر للمنتوجات المغربية، وبأسعار تناسب مستوى مدينة أمستردم السياحي؟!- وتنضاف إلى ما سلف، ملاحظة من الأهمية بمكان تثبت البعد السياحي للمعرض، وهي تتعلق باللغة التي قدمت بها مواد المعرض، وهما اللغتان الهولندية والإنجليزية، وهذا يعني أن الزبون المنتظر، إما أن يكون هولنديا يتحدث اللغة الهولندية، أو سائحا أجنبيا يتقن اللغة الإنجليزية، أما من لا يعرف إحدى هاتين اللغتين، فما عليه إلا أن يبقى في المنزل أو في الهامش أو خارج أسوار المعرض، وهذا يعني أن الخيار الثقافي لا يمكن اعتباره هاجس هذا المعرض، مادام أنه يقدم تراثا مغربيا بغير لغته، أو تراثا مغربيا لا يحمل من الثقافة إلا ما هو فلكلوري، يهدف إلى تسلية الآخرين وملأ أجندتهم السياحية، لا توصيل ذلك البعد الحضاري، الذي يبرز للآخر أن المغرب هو أكبر من أن يختزل في ثقافة الشيخات وهز البطن وطقوس الشاي وغير ذلك! حقا أن المنظمين استعملوا اللغتين الهولندية والإنجليزية للتواصل أكثر مع الآخر، لكنهم لماذا ألغوا اللغات الأخرى التي كتب بها ذلك التراث، كاللغة العربية والأمازيغية! إننا لسنا ضد استعمال اللغات الأخرى في مثل هذه المناسبات، غير أننا ضد تغييب اللغات الأصلية التي ينبغي أن يقدم بها ذلك التراث، وتثبت برفقته ترجمات إلى لغات أخرى.
بين العلاقة السياسية وحركة القرصنة
نقرأ في منشور إعلامي أن المعرض يبرز عراقة العلاقات المغربية الهولندية، والتي لا يمكن إرجاعها إلى سنة 1960، حيث تم وصول أول العمال المغاربة إلى هولندا، وإنما تتجاوز ذلك إلى سنة 1605، التي عرفت الميلاد الفعلي لتلك العلاقات. وكان على هذا المنشور أن يوضح ولو في فقرة مختصرة جانبا من هذه العلاقة، حتى يتمكن القارئ من رسم صورة أولية عن ذلك التواصل القديم الذي نشأ بين المغرب وهولندا، لذلك يجدر بنا في هذا الموضع، أن نشير إشارة طفيفة إلى نوع تلك العلاقة التي ربطت بين هاتين الدولتين، وأصل هذه العلاقة يمتد إلى ما يعرف بحرب الثمانين سنة (1568-1648) التي خاضتها هولندا ضد إسبانيا، حيث كانت من جهة المناطق المسماة الأقاليم السبعة بشمال هولندا في حالة تمرد، وكانت من جهة أخرى الدولة الإسبانية في مجابهة مع دول حوض البحر الأبيض المتوسط المقابلة لها، سواء منها التي كانت تحت سيادة الإمبراطورية العثمانية، أم التي كانت مستقلة كالمغرب.هكذا، نشأ تحالف بين هولندا التي كانت عدوة لإسبانيا، وبين تلك الدول الإسلامية التي كانت بدورها عدوة لإسبانيا! كأن طابع الصراع مع إسبانيا، الذي كان يطغى على كلا الكيانين، هو الدافع إلى ذلك التحالف الاستثنائي في تاريخ علاقة العالم الإسلامي مع القارة الأوروبية. وفي هذا الإطار حظيت هولندا بدعم كبير من المغرب الذي فتح موانئه لسفنها الحربية والتجارية، وبعد ذلك التاريخ توطدت العلاقات المغربية الهولندية، فأرسل المغرب سفيرا له إلى هولندا، واعترف بسيادتها على الأقاليم السبعة، ليكون المغرب بذلك أول دولة تقر بهذا الاعتراف التاريخي، وفي 24 ديسمبر 1610 تم تعزيز هذه العلاقة بتوقيع أول اتفاقية بين البلدين، وهي أول اتفاقية بين دولة إسلامية ودولة أوروبية، وبموجب بنود هذه الاتفاقية المبرمة يسمح بحرية الملاحة الحربية والتجارية للسفن الهولندية في الموانئ المغربية، وفي المقابل السماح كذلك للسفن المغربية بالإبحار في المراسي الهولندية، أما على المستوى الدبلوماسي فكان المغرب يبعث ممثلين له إلى هولندا، في حين نصبت هولندا قناصلها ببعض المدن المغربية كسلا والعرائش وطنجة وأسفي، هذا ناهيك عن العديد من الاتفاقيات والمعاهدات التي كانت تبرم بين كلا الطرفين.وتوجد في أحد أروقة المعرض لوحة توضح بشكل أو بآخر جانبا من هذه العلاقة التي قرنت المغرب بهولندا، وتكشف عن حركة القرصنة التي كانت تعم شواطئ البحر الأبيض المتوسط في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكان ينخرط فيها بعض البحارة الهولنديين، الذين اختلطوا بقراصنة شمال أفريقيا المسلمين، وتأثروا بثقافاتهم وعقائدهم، فكان نتيجة ذلك أن اعتنق الإسلام الكثير من الهولنديين. هذا كل ما تشير إليه لوحة المعرض، وفي هذا تقصير كبير، لأن العلاقة المغربية الهولندية كما تشير المعلومات التاريخية المثبتة أعلاها، أكبر من أن تختزل في حركة القرصنة، التي توحي تاريخيا بالسطو والسرقة وقطع الطريق! إنها علاقة توفرت فيها طوابع متنوعة، كالتحالف العسكري، والتعاون السياسي والدبلوماسي، والتبادل التجاري، والتمازج الثقافي وغير ذلك.
مكونات المعرض وتنوع المغرب الثقافي
بغض النظر إلى بعض نواقص هذا المعرض الشكلية والتنظيمية، فإن الزائر يفاجأ عندما يكتشف أن مكونات المعرض ومواده، إنما تشكل عصارة ما أنتجته الحضارة المغربية على مدى خمسة آلاف سنة من التاريخ الما قبل إسلامي والما بعده، وهي حضارة امتزجت فيها الأجناس واللغات والثقافات والعقائد، لذلك تقع أعيننا في المعرض على معروضات من مشارب وأصول شتى:- حيث على المستوى اللغوي توجد مواد أثرية وتحف تنطق باللسان الأمازيغي، ويتجلى ذلك في حجارة منقوش عليها حرف تيفيناغ الأمازيغي، وقد وجدت في منطقة عين الجمعة بنواحي الدار البيضاء، ويعود تاريخها إلى الألفية الأولى قبل المسيح، ويطلق عليها البربرية الليبية، وهذه الحجارة هي من معروضات المتحف الأركيولوجي بالرباط، كما توجد مواد أخرى مكتوبة أصلا باللغة العربية، وتجدر الإشارة هنا، إلى كتاب رحلة ابن بطوطة، الذي يعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وكتاب الجغرافيا لأبي عبد الله البكري الذي يرجع إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وترجمة يوحنا البطريقي لكتاب أرسطو طاليس التي تعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي، والقرآن الكريم المكتوب بالخط المغربي الكوفي، والذي يعود إلى القرن التاسع الميلادي وغير ذلك من الكتب والأسفار، وكلها مصنوعة من مختلف المواد، التي كانت تستعمل آنذاك، كالجلد والفضة والخشب والورق ونحو ذلك، وتنضاف إلى ذلك مواد أخرى مكتوبة باللغة الرومانية، مثل لوحات برنزية هي عبارة عن رسائل كتبت بين سنتي 161 و169 بعد المسيح، ومنها رسالة مكتوبة من قبل القيصر الروماني ماركوس أورليوس إلى كويديوس ماكسيموس حاكم موريطانيا آنذاك، ومنها كذلك نموذج لدبلوم حربي موقع بتاريخ 9 يناير 88 بعد المسيح، وكان هذا الدبلوم يقدم في روما ويحمل اسم القيصر دوميتيانوس.- أما على المستوى الديني فيمكن استجلاء أكثر من شاهد على التنوع العقيدي الذي طبع تاريخ المغرب، حيث تحظى المرحلة الإسلامية بنسبة الأسد داخل المعرض، نظرا إلى الامتداد الإسلامي الطويل الذي طبع الشخصية والثقافة المغربية، فبدا ذلك واضحا للعيان في أكثر من رواق أو تحفة أو لوحة أو كتاب، إذ اللباس المغربي الموسوم بالطابع الإسلامي الذي يميل إلى تحقيق السترة، حتى كأنك أمام حجاب إسلامي لكن بذوق مغربي، تتعدد فيه الألبسة من جلباب وفستان وقفطان وتكشيطة وغير ذلك، وتتنوع فيه الثقافات التي تنحدر منها هذه الألبسة من أمازيغية وجبلية وفاسية ورباطية وصحراوية وغير ذلك، وهي ألبسة تعود إلى أكثر من قرن من الزمن أو أقل بقليل. هذا بالإضافة إلى بعض الكتب الدينية المعروضة التي تؤكد إسلامية التاريخ المغربي، ومنبر خشبي مزين بالعاج والذهب، وهو من المدرسة البوعنانية بفاس، حيث يعود تاريخه إلى 1350 ميلادية. وهذا الحضور المكثف للدين الإسلامي لا يعني أنه ثمة غياب تام لأديان أو معتقدات أخرى، فعلى أحد جدران المعرض علقت لوحة توضيحية، تبين أن التاريخ المغربي كان محط تأثيرات دينية متباينة، وقد تصادف أن كانت في المعرض حلقة مكونة من زوار معهم مرشد، يشرح لهم علاقة المغرب التاريخية باليهود والنصارى، وكان يتم ذلك مقابل صخور منقوش عليها بالخط العبري، كما أن اللباس الذي كان معروضا لم يخل من نماذج يهودية مغربية، أما الحضور المسيحي فيتمثل في معتقدات بعض الأمراء والشخصيات الأمازيغية التي كانت معروفة قبل الفتح الإسلامي، كأوغسطينوس، ويوبا وغيرهما.- في حين يظل الجانب الإستيتيقي والفني حاضرا بكل وزنه عبر كل أنحاء المعرض، وهو جانب يترجم قدرة الثقافة المغربية على الإبداع والخلق، الذي يضع الآخر في موضع الانبهار والانشداد غير المتوقع إلى هذه الثقافة، التي تحبل بخاصيات الانفراد والاختلاف التي تميزها عن باقي الثقافات الإنسانية، وهذا يظهر في أغلب مكونات المعرض، من لباس وحلي وتجهيز منزلي وصناعة خشبية ونقش وفسيفساء ونقود وغير ذلك، وهذه كلها صناعات أو فنون تنضح بما هو جمالي، يستسيغه الذوق الإنساني في كل زمان ومكان، هذا ناهيك عن بعض المنحوتات الرخامية والبرونزية التي احتواها المعرض، وهي معروضات تجذب الزائر الأجنبي بشكل منقطع النظير، وذلك لوجود نوع من التقارب بينها وبين فن النحت الأوروبي، وأهم المنحوتات التي تسترعي انتباهنا، نجد تمثال إله النهر، الذي يمتد تاريخه إلى القرنين الثاني والثالث قبل المسيح، وهو مصنوع من المرمر، ويمسك قلة ترمز إلى الماء، متكئا على ذراعه اليمنى، كما يستوقفنا تمثال الأمير الأمازيغي يوبا الثاني، الذي كان يعشق الفن، ويتكلم لغات مختلفة، ويهتم بتدوين التاريخ والجغرافيا، ونصادف كذلك داخل بعض أجنحة المعرض تماثيل أخرى منها ما هو إنساني ومنها ما هو حيواني.ويعزى غنى هذا المعرض سواء من حيث عدد التحف والمعروضات التي يحتويها، أم من حيث التنوع الثقافي الذي يسمه، إلى تضافر جهود مجموعة من المتاحف المغربية الذائعة الصيت وطنيا ودوليا، التي شارك كل منها بسهمه في بلورة معالم هذا المعرض، وهي: متحف الوداية والمتحف الأركيولوجي بالرباط، المتحف الإثنوغرافي بتطوان، متحف محمد بن عبد الله بالصويرة، متحف القصبة بطنجة، متحف دار الجامعي بمكناس، متحف دار سيدي سعيد بمراكش، متحفا الباهية والبطحاء بفاس، ومتحف العيون، هذا بالإضافة إلى المكتبة الوطنية بالرباط.جملة القول، أن تنظيم المعرض المغربي بأمستردم، شكل طفرة نوعية في تعامل السلطات المغربية مع ملف الجالية المغربية الموجودة في الغرب عامة، وفي هولندا خاصة، ما دام أنه يعتبر آلية ناجعة لتصحيح وضعية المهاجرين في عين الآخرين، وتعزيز مكانتها داخل المنظومة الغربية، التي لا محالة بمجرد ما تطلع على هذا الإسهام الثقافي المغربي وأمثاله، سوف تتبدد في وعيها تلك الصورة النمطية الملبدة حول المهاجرين المغاربة، فتغير من أساليب تعاطيها لقضايا المهاجرين، غير أن تنظيم معرض ما أو غيره من الأنشطة غير كاف، إلا إذا كانت الأطراف التي تقف من ورائه، تؤمن بذلك التحدي الثقافي الذي يسعى إلى إثبات الذات الحضارية، لكن في نوع من الانفتاح المعقلن على الآخر، وفي هذا الصدد ينبغي أن نجعل من تلك النواقص المنهجية، التي اعترت هذا المعرض مكامن قوتنا ونحن نستشرف المستقبل.
(*) من خلال المعرض المغربي الذي احتضنته مدينة أمستردم.